بجرأة غريبة تنشر «المعارضة» خبراً ملخصه أن «مظاهرة حاشدة» خرجت وأنها تجوب العاصمة، ويرفق مع الخبر صورة أو فيلم فيديو قصير، لتكتشف أن مجموع المشاركين فيها لا يزيد عن عشرين شخصاً من الجنسين! فيرتسم السؤال على وجه المتلقي عن كيفية وصف مظاهرة قوامها هذا العدد الصغير جداً بالحاشدة؟ وعن الجرأة في وصف تحرك تلك المجموعة الصغيرة بالمظاهرة، حيث المظاهرة تكون عادة بالآلاف وعشرات الآلاف ومئات الآلاف وبالملايين، وفي أدناها بالمئات، لكنها لا تكون أبداً.. بالآحاد! كما أن مظاهرة من هذا «الوزن» لا ينطبق عليها وصف «حاشدة».
من ذلك على سبيل المثال قيام مجموعة صغيرة مكونة من نحو خمسة عشر فيتبعهم خمس إلى ست فتيات صوروا أنفسهم قبل أيام وهم يرددون بعض الشعارات المناهضة للحكم في أحد شوارع السوق القديم بالمنامة، بينما أسرع «الإعلام الثوري» بنشر الفيديو مرفقاً بخبر يصف «المظاهرة» بالحاشدة! والأمر نفسه يتكرر في أماكن أخرى (نظرة إلى أفلام الفيديو التي توثق التجمعات التي يتم تنفيذها في القرى تؤكد أنها لا حاشدة.. ولا محشودة).
لا أفهم كيف يفوت مثل هذا الأمر على «ممارسي العمل السياسي»، لكن كل من يلاحظ ذلك يقرر أن «المعارضة» ليست غافلة وأنها إنما تسعى إلى المبالغة لإيهام المتلقي أن أعداداً كبيرة تشارك في مظاهرات ضد الحكم.. وفي نفس الوقت إيهام نفسها أن الكاميرا لم تظهر إلا جانباً بسيطاً من المظاهرة وأنها بالفعل حاشدة! (بالنسبة للفضائيات «السوسية» تلجأ عادة إلى أحد ثلاثة أساليب؛ الأول التأكيد على أن المشهد الذي يتم بثه يبين جانباً فقط من المظاهرة وأنها بالفعل حاشدة، والثاني هو بث مقاطع من مظاهرة سابقة والادعاء أنها جزء من المظاهرة الحاشدة موضوع الخبر، والثالث هو عمل مونتاج يعين على القول إن المظاهرة حاشدة).
لكن تصرفاً كهذا ليس في صالح «المعارضة»، فللناس أعين وعقول ترى وتدرك أن الصورة لا تتطابق مع الخبر، وأنها إنما تبالغ مع سبق الإصرار والترصد ولا توفر الحقائق، وأن هدفها من ذلك واضح وهو القول إن «شعب البحرين» كله يقف ضد الحكم بدليل أنه يخرج في «مظاهرات حاشدة».
أما ما قد لا تعرفه «المعارضة» والفضائيات المساندة لها فهو أن الجمهور المتلقي سيكتشف إن عاجلاً أو آجلاً أن ما يصله من أخبار تتناقض مع الصور والأفلام المصاحبة لها، وأنه لن يكون أمامه سوى خيار واحد هو اتخاذ موقف سالب منها، حيث الصدق والدقة وحدهما اللذان يؤديان إلى التعاطف مع أي تحرك وليس المبالغة التي تصنف في باب آخر.
دونما شك، فإن المظاهرات أسلوب عالمي معروف للتعبير عن المطالب وتوصيل الرسائل إلى السلطة، وهو أسلوب مشروع طالما التزم المشاركون فيه بالأنظمة والقوانين، والمظاهرات يكون لها قيمة وتأثير عندما تكون حاشدة بالفعل؛ أي أن أعداد المشاركين فيها كبيرة جداً ولم تختتم بفوضى تعيق الحياة، لكن كثرتها يفقدها معناها وتأثيرها، خصوصاً إن تم وصفها بما لا يعبر عنها تعبيراً حقيقياً، فتوصف بالحاشدة وقوامها لا يصل حتى إلى مائة شخص (بما في ذلك الجمهور المشاهد)!
استمرار الخروج في مظاهرات هو الذي أدى إلى تناقص أعداد المشاركين فيها وفقدها قيمتها، وإطلاق أوصاف غير واقعية عليها سيؤدي إلى نفور الجمهور منها ومن منظميها. فعندما يقال عن «تصنيفة» مجموعة صغيرة من الأشخاص قررت في لحظة السير معاً في الشارع مظاهرة، وعندما يقال عن هذه المظاهرة بأنها حاشدة فليس أمام الجمهور إلا أن يصم «المعارضة» بما لا تشتهي أن توصم به.