مثل بات معروفاً منذ مئات السنين ليس جديداً على أسماعنا، وليس غريباً أن نردده كلما دعت له الحاجة. أذكر أول مرة سمعت به عندما كنت في الصف الرابع الابتدائي حين دخلت المعلمة وهي مذعورة من صوت الضجيج الذي كنا نصدره نحن طلبة الصف حيث كان الصوت يملأ أرجاء طابق المدرسة كاملاً، وبعد التوبيخ اللازم الذي أطرب أذنينا أرادت أن تتحكم بهذا الهدوء فقد أمرتنا بكتابة قصاص مائتين مرة، وهو مثل خطته على السبورة (إن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب)، ولاأزال أذكر عندما وصلت للمرة الـ 75 حرفت المثل وكتبت إن كان الكلام من فضة فالسكوت يتعب الأيادي. فقد ضاق صدري من كتابة القصاص وتعبت مثل غيري من الطلبة.
لكن لا أعتقد بأن هذا هو حالنا اليوم، فلم يعد يستدعي الأمر كتابة هذا المثل على السبورة أو على الجدران أو في الممرات لتذكيرنا بأهمية الصمت، فقد أصبح الصمت مصاحباً لنا ونتلذذ به عندما ندخل عالمنا الخاص على أجهزة هواتفنا النقالة، ولم تعد نفوسنا تضيق ذرعاً من ساعات الكتابة المتواصلة ليلاً ونهاراً بصمت وإن حل الألم والتعب على أجسادنا والنعاس فلا شيء يردعنا عن مواصلة الكتابة إلا عندما ينتهي الهاتف من الشحن الكهربائي، حينها تسمع تنهدات التأفف والانزعاج.
فقد لفتني مرة كلام أحد الأصدقاء المقربين عندما قال لي «غير معقول... إن شبكات التواصل تقرب البعيد وتبعد القريب»، موصفاً الحقيقة المرة التي نعيشها يومياً أن أقرب الأشخاص لدينا من الناحية المكانية والذي يمكن أن نزورهم ونستمتع بالحديث معهم صارت علاقتنا بهم عبارة عن رسائل صادرة وواردة وفي المقابل الأشخاص الذين تفصلنا عنهم عشرات ساعات سفر نحن معهم».
صدق بكلامه فعلاً... ولا شك بأن لكل سلبية يوجد إيجابية ما مقابلة لها ... ولكن ما عاد ليطاق أن تصبح مشاعرنا الحقيقية تترجم بصورة البروفايل وحالتنا النفسية ومزاجنا نعبّر عنه بشطر بيت أو جملة من أغنية نرددها لتكون محطة في الـ (Status) وأكبر النزاعات تنحل بصورة وجه مبتسم أو باقة ورد جافة يمكن أن يقطفها المُرسل من أي حديقة في العالم ويقدمها كصورة من دون ريحة ولا نكهة للمرسل له. ألم نصبح محترفين فن الضحك الصامت؟
فقد بتنا نشتاق إلى سماع أصواتنا، قهقهاتنا عندما نكون مجتمعين سوياً بين الأصحاب والأهل، أما الآن فقد أصبحنا ننتظر بعضنا بعضاً ليتكلم... لقد بات الكلام كالجواهر الثمينة كالماس تنتظر مالكها بأن يتحنن عليك ويهبك منها إشعاعها ولو قليلاً... حينما يرى أنه لا بد أن يترك هاتفه جانباً وأن يشارك الجماعة جلستهم التي فاته من محاورها الكثير. فالمضحك المبكي أن كل واحد فينا لديه عالمه الخاص به الذي يتنقل معه أينما رحل وحلّ وكل ذلك موجود في هاتف لا يتعدى حجمه كف اليد. ولعل الأغلبية بات يطبق الآن أقوال الإمام علي رضي الله عنه معللين صمتهم المستفز، بأنه:
ربّ سكوت أبلغ من الكلام ورُب كلام أنفذ من سهام.
في حين نسينا أنه من لانت كلمته وجبت محبته ودليل عقل الرجل قوله.