أمام معارك منطقة القصير الطاحنة استوقفني تساؤلان؛ الأول منطلقه أني، وسط هذه الفوضى العارمة، أذكر نفسي دائماً بأن أحداث سوريا بدأت بثورة لإسقاط الدكتاتورية وإحلال قيم الديمقراطية من عدالة وحرية وتداول سلطة وتوزيع عادل للثروات..، فهل الجماعات المتقاتلة في القصير لها علاقة بأهداف الثورة السورية؟ وهل هي مؤهلة نفسياً وأيديولوجيا للنهوض بهذه المهمة إن هي حققت هدفها وأسقطت نظام الأسد؟
السؤال الثاني منطلقه استشراء الدعوات للقتال في سوريا وتسليح كلا الطرفين، وتصاعد الدعوات للجهاد المقدس مرةً للدفاع عن العتبات المقدسة ومقاومة الإسرائيليين والتكفيريين، ومرةً أخرى لحماية أهل السنة ودحر إيران وحزب الله..، حينها تذكرت مجازر البوذيين ضد المسلمين في بورما تحقيقاً لغايتهم بتطهير المنطقة من أي دين سوى البوذية، فتساءلت لماذا لم تدعُ أي جهة إسلامية أو شيخ دين المسلمين للجهاد في بورما وحماية الدين الإسلامي من الاجتثاث من تلك البقعة التي يباد فيها المسلمون منذ مئات السنوات، ألا يستحق المسلمون في بورما النصرة والجهاد والنفير ضد البوذيين ؟!!
هل مازال لدينا شك أن المنطقة كلها قد استدرجت لتبدأ حرباً طائفية انطلاقاً من الأراضي السورية؟ حين نتأمل جغرافيا القتال في القصير، لا نشك مطلقاً أن القصير كان مقرراً لها أن تكون ساحة انطلاق لتطوير المعارك باتجاه الداخل اللبناني، فجبهة النصرة التي يقال أنها تنتمي للقاعدة تطمح في التمدد خارج الحدود السورية، ولها أيضاً جهات إمداد من عناصر جهادية وخارجية من الداخل اللبناني مما حفز النظام السوري مدججا بقوات حزب الله للتوغل داخل الحدود اللبنانية لمحاصرة منطقة القصير وخنق عناصر الجيش الحر فيها، وهذا ما ترك ارتدادات سليبة في مدينة طرابلس اللبنانية حيث بدأت فعلاً معارك طائفية صغيرة ومحاولات اغتيال لعلماء دين من مسلمين الطائفتين في بلد يعيش دائماً على فوهة صراع طائفي متعدد المحاور.
على الجهة الأخرى من الخارطة ثمة بركان طائفي آخر متاخم للحدود السورية. فثورة الأنبار السنية تقاوم محاولات المالكي لجر الشيعة نحو مواجهة ثورتهم من جهة، وتقاوم محاولات تنظيم القاعدة الزج بثورتهم السياسية والحقوقية في أتون صراع طائفي أشعلت القاعدة بعض حرائقه بقتل مجموعة من حرس الحدود المنتمين لمحافظة كربلاء وبترويجها إشاعات عن الاجتماع مع قيادات ثورة الأنبار والتنسيق معهم، وهو ما نفاه تماما أحد أهم قيادات ثورة الأنبار الشيخ علي الحاتم.
وخارج بقعة القتال ولكن انطلاقاً منها.. ففي البحرين سقط شاب بحريني شهيداً دفاعاً عن القصير ضمن جبهة الجيش الحر، وثمة أخبار مؤكدة عن اشتراك بحرينيين شيعة في القتال ضمن صفوف حزب الله دفاعا عن النظام السوري، وثمة أخبار غير مؤكدة عن سقوط قتيل من بينهم. وأمام هذه المعضلة لا يملك المرء إلا أن يرى أن المنطقة مقبلة على فوضى عارمة وأن شرارات الاقتتال الطائفي في سوريا قد بدأت تطال الجميع. وقد بدأت معالم التقسيم الطائفي للمنطقة قاب ثلاثة أقواس أو أربعة.
وتركيا التي ظنت أنها ستكون بمنأى عن كل ما يحدث في سوريا وأن عضويتها في حلف الأطلسي وتحررها من المنظومة العربية يضمنان لها تحريك قواعد اللعبة النارية دون أن تصاب بلسع لهيبها قد بدأت تحصد رماد الحرب في سوريا. فالغضب العارم الذي تفجر ضد سياسات أردوغان لا يستبعد أن تكون الأصابع الإيرانية والسورية والروسية قد حركت بعض عناصره استثماراً لأخطاء أردوغان في معالجة الملف السوري وانزلاقه إلى انتقاد الشيعة من حزب الله والعلويين في حزب بشار الأسد في ظل اعتزاز أغلب الأتراك بعلمانية بلدهم ووجود ما يزيد عن 12 مليون علوي تركي!!
ولو عاد التاريخ بنا إلى ما قبل ثلاثين عاما؛ فسنجد أن هذه المنطقة نفسها كانت تحيا في انسجام وتعايش وقبول للآخر، وإن كانت تدرك الاختلاف الجوهري عقديا واجتماعيا بين مكوناتها، ولو عاد التاريخ إلى أكثر من خمسين عاماً فإن منطقة الشام والعراق قد اشترك فيها الشعب كاملاً في حروب التحرير ضد المستعمر وتوحدت جبهاتهم ضده دون تمييز طائفي أو عرقي، ولم يكن أحد يتصور أن ينجرف الأبناء والأحفاد إلى الاقتتال الداخلي باسم المذهب والحزب والمناطقية!!
فمن يقود أطراف هذا المخطط الجهنمي الذي لن ينجو منه أحد بما فيهم العناصر اللاعبة خارج منطقة الاقتتال؟ ومن سيواجه هذا الانزلاق الخطير الذي سيفتت المنطقة ويعيدها إلى الجاهلية الأولى باسم الإسلام الذي يختصم فيه سبعون فرقة؟!!
أسئلة لابد أن يتوقف العقلاء وصناع القرار في المنطقة عندها. صحيح أن الوقت قد تأخر كثيراً لكبح جماح العناصر المتعددة التي كانت تنتظر فرصة الاقتتال في المنطقة لتحقيق أهدافها الخاصة، لكن الوقت لم يفت لإنقاذ المنطقة من الانهيار الكامل.