من أبرز النتائج التي خلص إليها مؤتمر «الدائرة المستديرة لخبراء الطاقة في المعهد الملكي للشؤون الدولية» في لندن أواخر فبراير الماضي، أن المملكة العربية السعودية تستطيع توفير 23.8 مليار دولار سنوياً لو أنها قامت بتنفيذ برنامج وطني متكامل لترشيد الطاقة..! وهذا رقم إضافة إلى أنه هائل بكل المقاييس..! فإنه يطرح بالتأكيد تساؤلات حتمية عن الأسباب والدواعي التي تحول دون تطبيق هذا البرنامج وبالتالي توفير هذا المبلغ الهائل..؟!
أما في البحرين فثمة رقم مذهل آخر «نسبياً» أدلى به قبل أيام قليلة الدكتور عبدالحسين ميرزا وزير شؤون الكهرباء والمياه في معرض ومنتدى ترشيد الطاقة الرابع، حين أشار إلى أن باستطاعة البحرين توفير حوالي 29 مليون دينار سنوياً لو لجأت إلى تعميم استخدام مصابيح إنارة أكثر كفاءة في قطاع الإسكان..! هذا مع العلم أن نحو 65% من الطلب على الكهرباء في البحرين يذهب لاستهلاك أجهزة التبريد..! وهو الأمر الذي يعني حتمية التوجه لاستخدام فعال للطاقة المشغلة لأجهزة التبريد في المنازل والأسواق والشركات وغيرها.
الاستخدام الفعال للطاقة «Efficient energy use» هو مصطلح يقصد به: استخدام كمية أقل من الطاقة لإنتاج نفس التأثير أو أداء نفس الوظيفة.. ومن الأمثلة العملية على ذلك: استخدام العزل الحراري في الأبنية، واستخدام المصابيح الفلورية، وتقنيات الاستعمال الرشيد للطاقة الكهربائية في الإنارة ..إلخ. وبشكل عام فإن الاستخدام الفعال للطاقة يقوم على تطوير التقنية المستخدمة أكثر من الاعتماد على تغيير السلوك البشري أو تطوير الثقافة الاستهلاكية وسلوكيات الاستخدام، بالرغم من أنها كلها تلعب دوراً بارزاً في سياسة المحافظة على الطاقة.
وبالتالي فهناك مصطلح آخر موازٍ لمصطلح الاستخدام الفعال للطاقة، هو: الاستخدام الرشيد للطاقة.. والفارق بين الاثنين أن الأول يعتمد على تطوير التقنيات، في حين يتأسس الثاني على تطوير السلوكيات بالنسبة للأفراد والسياسات بالنسبة للمؤسسات والمنظمات والحكومات.
وحين ندمج الأمرين معاً في نهج مدروس ومتكامل، فإننا نبدأ فعلياً في توفير الطاقة. وفي جميع الأحوال، فثمة حاجة كونية للمحافظة على مواردنا الآيلة للنفاد من الطاقة والموارد الطبيعية، وثمة بالمقابل توجه عالمي محموم للاستخدام الفعال للطاقة في المنازل والمكاتب، والمركبات، والصناعات المختلفة بهدف توفير الطاقة أولاً، وحمايتها من الهدر والاستخدامات غير الرشيدة، إضافة إلى الحد من استخدام الوقود الأحفوري والانبعاثات الحرارية ومواجهة الاحتباس الحراري العالمي وغير ذلك من القضايا الإنسانية والأممية المتصلة بمسألة الاستخدام الفعال للطاقة، والاستخدام الرشيد لها. وقد أثبتت برامج وسياسات الاستخدام الفعال للطاقة حيثما جرى توطينها وتفعيلها بأنها ذات جدوى اقتصادية مرتفعة للغاية، واستراتيجية ممتازة لبناء وتطوير البنية التحتية دون الحاجة للزيادة في استهلاك الطاقة. كما أظهرت الدراسات في البلدان التي اتبعت سياسات صارمة بشأن توجيه الاستخدام الفعال للطاقة؛ أن هذه الإجراءات رغم أنها قد تكون مكلفة في البداية إلا أنها مجدية اقتصادياً للشركات والصناعات التي تتبعها.
في البحرين تعتبر شركة «بابكو» وشركة البتروكيماويات «جيبك» من أكبر الراعين لتوجهات توفير الطاقة وتوطين أساليب الاستخدام الفعال لها. كما إنهما تشكلان قطبان بارزان في مجال قيادة المجتمع إلى مفاهيم استهلاكية راشدة وحصيفة في مجال الاستعمال اليومي للطاقة وخاصة الكهرباء.. ومن محاسن الصدف أيضاً وجودة حظ البحرين في هذا المجال، فإن الوزير الموكل شؤون الكهرباء والمياه هو وزير طاقة سابق وفي نفس الوقت هو أحد من يمكن وصفهم بسفراء نوايا حسنة في مجال التوعية بترشيد استخدام الطاقة والدعوة لتوطين الاستخدام الفعال لها في البلاد على المستويين الرسمي والأهلي.. غير أن هذا وحده لا يكفي. فلابد من انتهاج سياسات جادة ومدروسة وهادفة، ولابد أن تكون هذه السياسات عامة وشاملة وقابلة للتطبيق. ويمكن أيضاً أن نقترح مبادرات تشجيعية من الدولة للمبادرات المؤسسية أو الأهلية في مجال ترشيد الطاقة والاستخدام الفعال لها. وفي نفس الوقت لا يمكن لأي برنامج ترشيدي أن ينجح إذا لم يكن أمام المستهدفين به القدوة الجيدة وخاصة في القطاع الحكومي. فمن النكات والتعليقات الساخرة التي واجتني كثيراً في مجال عملي تقارير صحافية وتلفزيونية مصورة تظهر وزارات الكهرباء الداعية لترشيد استهلاكها وهي تتلألأ في الليل بآلاف المصابيح وكأنها تحت وابل من الألعاب النارية ..! والنماذج والأمثلة المشابهة كثيرة وتكاد أن تكون منتشرة في كل المجتمعات النامية.. وعلى طريقة الذين سرقوا سيارة رئيس شرطة مكافحة سرقة السيارات..!! وعلى كل حال فالحديث في هذا المجال ذو شجون -كما يقولون- ومن هذه الشجون مثلاً، أن معرض ومنتدى ترشيد الطاقة الذي شهدته مملكة البحرين قبل نحو أسبوعين، مرّ من دون أن تصاحبه حملة إعلامية أو حملة إرشادية بجوانب ومعطيات وأفكار جديدة تفضي بمستخدميها إلى التوفير من الطاقة وتدعو المستهلكين لانتهاج الأساليب الأكثر رشداً في التعامل مع هدر الطاقة والموارد الطبيعية..!
وما نريد أن نصل إليه من هذا الطرح ليس الانتقاد بالتأكيد.. ولكن يجب الاعتراف أن ثمة مؤشرات بحرينية لامعة على توطين الاستخدام الفعال للطاقة وعلى نهج ترشيد استخدامها.. وهي في النهاية تبقى مؤشرات منفردة إذا لم يتم تعميمها وتبني الأفضل منها وتعزيزه بحملات توعوية ولإرشادية لا تستهدف المستهلكين فقط، بل المصنعين إن وجدوا والوكلاء المستوردين أيضاً، وبنفس درجتهم من الأهمية المقاولون ومهندسو المعمار والأبنية.. فهؤلاء هم الذين يمكن اعتبارهم بمثابة قادة الرأي في عالم الترشيد الإيجابي للطاقة والاستخدام الفعال لها.. وهم الذين يكتبون هوية الترشيد في البلاد ويرسمون شكل استخدامها الفعال للطاقة.
- خبير دولي في الطاقة