بالتأكيد أن هناك من كان يرفض وجود الإخوان المسلمين في المسرح السياسي في مصر رفضاً شخصياً، لكن ثمة كثيرين من مخالفي الجماعة الذين قبلوا بوجودها ودعموا أعضاءها وطالبوا بإعطائهم فرصة التجربة والمحاولة والخطأ. ولكن المشكلة التي أودت بالتنظيم الإخواني وأثارت غضباً شعبياً غير مسبوق في مصر، هي أن التنظيم تعامل مع الدولة بمنطق «العصابة» التي عملت على اختطاف الدولة لا بمنطق الحزب السياسي الحاكم المؤتمن على مصيرها.
كان الخطاب الإقصائي هو المسيطر على الجماعة منذ الانتخابات البرلمانية الأولى، حين قسموا الشعب المصري إلى إسلاميين مؤيدين لهم وإلى أعداء للإسلام يعارضونهم. وصدم الجميع بعبارات تكفير الآخر وتقديس محمد مرسي مرشح الجماعة وتشبيهه بالأنبياء تارة وبالصحابة تارة أخرى. وكان رد المصريين جاهزاً ومفحماً في كل مرة بأن من أدخل الإسلام إلى مصر هو عمرو بن العاص رضي الله عنه وليس حسن البنا مؤسس الجماعة، وأن حسن البنا ذاته وجميع أعضاء جماعته درسوا الشريعة الإسلامية وحفظوا القرآن الكريم في مصر وفي الأزهر الشريف ولم يتفضلوا به على المصريين. وأن رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم توفي ولم ينته الإسلام بموته، بل استمر وانتشر، فكيف تحتكر الجماعة الدين الإسلامي فيها وتختزله في بقائها في الحكم؟
اليوم حين تدافع الجماعة ورئيسها المخلوع عن بقائهم في الحكم بحجة الشرعية، فإن المصريين ثاروا دفاعاً عن الشرعية التي انتهكها محمد مرسي مدة حكمه، لقد خرج المصريون أولاً احتجاجاً على الإعلان الدستوري، الذي انقلب على الشرعية القانونية وحصن جميع قرارات رئيس الجمهورية، وانقلب على أحكام المحكمة الدستورية بإعادة مجلس الشورى وتحصين اللجنة الدستورية التي اختطفت الدستور لصالح الجماعة وأرغمت عليه المصريين في إجراءات استفتاء شهدت انتهاكات فاضحة على جميع القنوات الفضائية، لكن محمد مرسي لم يستجب للاحتجاجات الأولى واستمر في التخبط وفي إقصاء باقي النخب السياسية حتى تكاثر شاكوه وقل شاكروه.
حين تتحدث الجماعة عن الشرعية فإن المصريين ثاروا احتجاجاً على اغتصاب الجماعة لمنصب النائب العام وتعيين نائب خاص انشغل بملاحقة الإعلاميين والنشطاء السياسيين ولم يحقق في جرائم القتل التي وقعت زمن محمد مرسي وفي الفساد المالي والسياسي الذي أوصل مصر إلى حافة الهاوية. كل هذه الأخطاء الجوهرية وقعت والجماعة تمضي في سرعة جنونية نحو مشروع أخونة الدولة المصرية في ظل افتقادها لمشروع سياسي ولبرنامج رئاسي، وفي ظل تصرفها بغرور وتعال وإقصاء لكافة الخبرات الوطنية وهو ما أوجد حالة شبه إجماع أن استمرار الجماعة في الحكم يعني انهيار الدولة المصرية العريقة.
الطوفان البشري الذي خرج بصورة غير مسبوقة في تاريخ البشرية خرج ليستعيد مصر الكبرى التي عزلتها الجماعة عن محيطها العربي والأفريقي وقزمت دورها الحضاري ليبقى تابعاً لأمريكا وسياساتها في رسم خارطة الشرق الأوسط الجديد. كان دور مصر المرسوم والذي عملت الجماعة على تنفيذه هو تزعم الهلال السني ليواجه الهلال الشيعي لتدخل المنطقة في حرب طائفية كبرى متعددة المراحل لا يخرج منها إلا وقد دخل القرون الوسطى دون رجعة.
الذين استمعوا إلى الخطابين الأخيرين للفريق عبدالفتاح السيسي وقارنوه بالخطابين الأخيرين لمحمد مرسي وجدوا كم هو الفرق شاسع في بينة الخطابين، كان خطاب محمد مرسي محرضاً على الاقتتال ومليئاً بالمعلومات المغلوطة وبالشتم والازدراء وإلقاء التهم جزافاً، وكان منفصلاً تماماً عن حركة الشارع وإرادة الشعب، أما خطاب الفريق السيسي فكان نموذجاً للخطاب السياسي المسؤول المدروس والمعد بعناية، حيث عبر عن الوطنية المصرية ووحدة الهوية والحفاظ على الأمن القومي المصري وحماية الدم المصري وإشراك جميع المكونات السياسية في اتخاذ القرار والانحياز للشعب وإرادته.
وبعد أن طويت مرحلة محمد مرسي فإن الشعب المصري قدم درساً تاريخياً فيما يجب أن تتحلى به القوى الوطنية والأحزاب السياسية من الالتزام بمشروع وطني ينحاز للشعب واحتياجاته وطموحاته، ويحافظ على هوية الدولة المصرية ووحدتها التي هي أقدم دولة في العالم. كما قدم الشعب المصري درساً تاريخياً للمتاجرين في الدين والمنتفعين به حين اشترك شيخ الأزهر في خطاب المرحلة الانتقالية وحين تواجد ممثل حزب النور السلفي مع بابا الكنيسة القبطية في إعلان المرحلة الانتقالية؛ مواجهين بذلك أصواتاً شاذة وصفت ثورة 30 يونيو بأنها حرب صليبية تريد اجتثاث الإسلام من مصر وأن جبريل عليه السلام نفسه قد نزل ليواجه هذه الحرب.
لا يمكن الجزم بما ستؤول إليه الأحداث في مصر، لكننا نتمنى للشعب المصري ألا تختطف ثورته مرة أخرى، وألا تسقط في كف من يحمل مشروعاً خارجياً يكمل به الأخطاء التي مارستها الجماعة وأدت إلى سقوطها.