ضجة كبيرة مثارة حالياً حول موضوع الأخطاء الطبية بعد أن حدثت أكثر من حالة وفاة مع وجود شبهات ودلائل تشير لوجود أخطاء أدت إلى ذلك، وكما في كل شيء فنحن نسارع للتعاطي مع الموضوع من منطلق عاطفي غالباً، وكالعادة علت الأصوات لضرورة المحاسبة وإيقاع أقصى درجات العقوبة على المتهمين، وهم هنا المسؤولون في وزارة الصحة بدءاً من الوزير وصولاً إلى الدكتور أو «الطبيب المتدرب» الذي أدى لتلك الأحداث المؤسفة.
في البداية لابد أن نتفق أن مبدأ المحاسبة مبدأ ضروري ومطلوب، بل هو أداة من أدوات الرقابة وتصحيح وتجنب الأخطاء، ومن أهم مقومات الدولة المدنية التي تراقب سلطاتها بعضها، ويكون حتى للناس والرأي العام دور مهم في عملية الرقابة، وتأخذ المحاسبة مجراها بعد أن تتم عملية التثبت من كل الدلائل والتأكد من كل معطيات القضية «أياً كانت» ومن ثم تتم المحاسبة العادلة التي يتساوى أمامها الجميع «مسؤول، وزير، موظف كبير، أو بسيط، مواطن عادي، أو من عائلة مرموقة أو أو»، فالكل أمام القانون سواء، كل ذلك يتم وفقاً للدلائل والوقائع لا تبعاً لردات الفعل العاطفية.
لكننا نتفهم أن تكون هناك حالة من التعاطف الكبير وحتى الغضب لدى الناس حينما تحدث أخطاء في الحقل الطبي تحديداً، يذهب ضحيتها أطفال أبرياء أو شباب في مقتبل العمر خاصة إذا كانت هذه الأخطاء نتيجة إهمال أو عدم مسؤولية وكان يمكن تفاديها، لذلك أشارك الناس وأهالي الضحايا معاناتهم وتعاطفهم ولا أسخر نفسي أبداً في موقع الدفاع عن الجهات الطبية ولا عن وزارة الصحة، ولكنني أريد فقط أن آخذ الموضوع لجهة وضعه في نصاب عام لا من باب الشخصنة «لا شخصنة الضحايا ولا المسؤولين أو الجناة»، كي يمكن تحقيق الاستفادة والبحث عما يقلل من حدوث ذلك مستقبلاً ووقوع ضحايا جدد لأخطاء طبية جديدة، لذلك وفي نفس السياق نطالب بسرعة ظهور نتائج التحقيقات، وأن تخضع للشفافية القصوى وتكشف للرأي العام ونطلب من الهيئة الوطنية لتنظيم المهن والخدمات الصحية أن تعلن دون تلكؤ ما خلص إليه التقرير النهائي للتحقيقات، وأن تتم المحاسبة وتبدأ الخطوات الإجرائية الداخلية وترفع المسألة للقضاء إن وجدت ضرورة لذلك، كما لا ننسى أن حق الأهالي في كل الحالات محفوظ في التوجه إلى النيابة والقضاء.
من المعروف أن الأخطاء الطبية مسألة تحدث في كل مكان وهي موثقة علمياً ومؤرخة، وهناك دول ترصدها وتعلن عنها صراحة باعتبارها من واقع المهنة، فمثلاً تصل نسبة الأخطاء الطبية في أمريكا وكندا إلى 7.5% من نسبة دخول المرضى إلى المستشفيات للتنويم، وفي أوروبا نسبة الأخطاء الطبية تتراوح ما بين 6% إلى 11% من نسبة دخول المرضى إلى المستشفيات للتنويم، وقد ارتفع عدد الدعاوى القضائية ضد الأطباء خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية بسبب كثرة الأخطاء الطبية والتقصير غير المتعمد أو المتعمد من قبل الأطباء تجاه مرضاهم، أما عربياً -فكالعادة- لا يوجد دراسات معتمدة وقوية لمعرفة إحصائيات دقيقة للأخطاء الطبية، والبحرين كبقية الدول العربية لا توجد بها إحصاءات في هذا الشأن، لكن الوزارة لديها إحصائيات عن عدد العمليات التي تجرى سنوياً في مجمع السلمانية الطبي وهي تراوح 24 ألف عملية أي نحو 60 عملية في اليوم، فهل نسبة الأخطاء لدينا قريبة من المعدل العالمي ما بين 6 إلى 11% وهل هي أخطاء خطيرة أو صغيرة؟ هل هي نتيجة إهمال عنصر بشري غير مؤهل جيداً أو متقاعس أو بسبب خلل في المنظومة العامة؟ وهل كان يمكن تفاديها؟
حقيقة لا نعلم؟! لكن ما نعلمه أن الموضوع أخذ حيزاً كبيراً من الاهتمام الشعبي، ولا بد أن يجد نفس الحيز من التحرك الرسمي، فهناك اتهامات نيابية لوزير الصحة بتقصيره تجاه وزارته، وما يحدث من أخطاء طبية في ظل وجود عدد كبير من الضحايا نتيجة الإهمال الطبي دون متابعة لأي من الشكاوى التي يرفعها المواطنون نتيجة ذلك الإهمال، وهناك تساؤلات عن سبب ظهور الأخطاء على السطح الآن؟ فهي كانت موجودة من قبل، فهل نستنتج أن هناك زيادة في الأعداد، وهل هذا دليل على أن النظام العام في المستشفى به خلل عام في المنظومة المؤسسية كلها؟ لمعرفة كل ذلك لابد من إجراء دراسات ميدانية وتحقيق شامل يظهر الحقائق للناس ليس في الأخطاء المؤسفة التي حدثت مؤخراً، ولكن في الوضع العام للمستشفيات في البحرين، وجاهزيتها وكفاءة العاملين فيها ونظمها وبنيانها المؤسسي وسياساتها التوظيفية بكل شفافية ومكاشفة.
شريط إخباري:
من المهم سد الفراغ التشريعي الموجود في هذا الجانب، إذ هناك اقتراح بقانون بشأن المسؤولية الطبية منذ عام 2007، تم رفعه للحكومة، قبل إحالته بصيغة مشروع بقانون في عام 2010، إلا أنه لم ير النور إلى يومنا هذا، وأتمنى أن يكون هذا المشروع من أهم أولويات النواب في الدور الرابع من هذا الفصل التشريعي الذي سيبدأ قريباً إن شاء الله.