أذكر جيداً عام 2003، عندما كانت طبول الحرب على العراق تدق، كيف سرَت كلمة «القومجية» كالنار في الهشيم.
كرر الكلمة ومشتقاتها كثيرون من مؤيدي غزو العراق من معسكرين متضادين: الأول إسلامي شيعي متشدد، والثاني يساري شيوعي متلوع. يومذاك جمعت هذين «المعسكرين» مصيبة العداء لصدام حسين، الحاكم في حينه باسم «عروبة» حزب البعث العربي الاشتراكي.
شخصياً كنت أتضايق من استخفاف «المعسكرين» الشيعي والشيوعي بالقومية العربية والسخرية منها بهذا الشكل، على الرغم من علمي التام بسجل صدام حسين الفظيع في مجال حقوق الإنسان، وتعامله الإلغائي مع معارضيه، وفرضه على الهوية العربية صبغة قمعية دموية ألحقت وتلحق بها حتى اليوم أسوأ الانطباعات.
لقد كنت، وما زلت، ضد الغزو بالطريقة التي تم بها فصولاً، ليس حباً في حكم تسلطي ديكتاتوري متخلف.. بل لقلقي من غياب أي تصور حقيقي عند القوى الغازية لـ «سيناريو» اليوم التالي. وربما سينزعج بعض الإخوة والأحباء في دول الخليج، والعراق بالذات، من كلامي هذا.. غير أنني كنت معارضاً لغزو يدمر من دون أن يكون في حساباته البناء بعد التدمير. بل غزو يرفض التنبه للحساسيات والتفاعلات المتصلة بالنسيج الاجتماعي العراقي، ويرفض توضيح تصوره لـ «عراق ما بعد صدام» ضمن الخريطة الإقليمية للشرق الأوسط.. وهو الكيان المهدد بالطموحات الإيرانية والتركية، والعداوة الإسرائيلية، وأحلام الاستقلال الكردية.
باختصار، كنت ضد غزو العراق بقدر ما كنت ضد بقاء ديكتاتورية صدام حسين التي أسهمت عبر «إدارتها» الدموية للملف السني الشيعي والملف الكردي، في تمزيق الوحدة الوطنية العراقية، وسوغت لفريق كبير من العراقيين الارتماء في أحضان إيران.. وغير إيران.
هذا كان الحال عام 2003. أما اليوم، بعد عقد من الزمن، فإننا نجد أنفسنا أمام واقع إقليمي جديد خلقه ذلك الغزو، يمكن اختصاره بتسليم إيران كامل المنطقة من الحدود الإيرانية – العراقية إلى شاطئ شرق المتوسط، عبر حكومة نوري المالكي في العراق ونظام بشار الأسد في سوريا وهيمنة «حزب الله» على لبنان.
الغائب الأكبر في هذه المنطقة هو العروبة، بمعنى العروبة الحقة، مع أن أبواق الإعلام السوري ما زالت تتاجر بعروبتها المصطنعة فوق أجساد السوريين وأنقاض مدنهم وقراهم. وبالأمس، بينما كان نظام دمشق يعد العدة لإتلاف سلاح كيماوي لم يستخدمه كغيره من الأسلحة إلا على شعبه، استضافت العاصمة اللبنانية بيروت ملتقى حمل اسم «المنتدى العربي الدولي لمناهضة العدوان على سوريا»، حضرته 450 شخصية من 30 دولة، كما جاء في البيانات والتقارير الإعلامية. أما الجهة الداعية للملتقى فهي «المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن»، وهي مؤسسة بدا لي من أسماء مسؤوليها أنها تمثل تيارا كان قبل 2003 مقربا جداً من صدام حسين والنسخة العراقية «أو القومية» من حزب البعث.
لكن ظروف النضال «القومي» فرضت على هؤلاء التقرب من الجهات نفسها التي حرضت على صدام واستفادت من إسقاطه ودفعت باتجاه إعدامه، بينما العراق لا يزال يرزح تحت الاحتلال.
«قومجيو» ملتقى بيروت لم تستفز «عروبتهم» مشاهد القتل والدمار في سوريا منذ أكثر من سنتين ونصف السنة، ولم يجدوا غضاضة في الإصغاء إلى الشيخ نعيم قاسم الذي يمثل حزباً دينياً بعيداً جداً عن علمانية هؤلاء «القومجيين». وطبعاً، لم تضايقهم كلمات سفير النظام السوري التي تصر على التصدي لـ«المؤامرة» التي اخترقت أكثر من 40 سنة من حكم الاستخبارات، وسفير روسيا الرافض تماما لـ «التدخل الخارجي».. الذي لا يندرج تحته - على ما يبدو - إرسال السلاح الروسي وألوف المقاتلين العراقيين واللبنانيين والإيرانيين.
نحن هنا أمام مأزقين، فكري وأخلاقي، كبيرين.. في الشق الفكري غدا واضحاً أن من يزعمون العروبة ويطبلون لها ويزمرون يفتقرون إلى القدرة على تعريفها.
يعجزون عن فهمها خارج نماذج الفرض والتسلط والهيمنة أو المحسوبية والاستزلام وشراء النفوذ.
ثم لا يستطيعون تمييز ما هو قومي وما لا علاقة له بالقومية، وبين من يؤمن حقاً بهويته العربية ومن يستغلها شعاراً نفعياً للتأجير والمقايضة.
إن ثمة إشكالية فعلية في فهم معنى العروبة عند أولئك الذين تجمعوا في بيروت بالأمس تضامناً مع نظام أهرق الدم العربي على امتداد أكثر من سبعة أشهر من دون أن ترفع المعارضة السورية السلاح، والذي حوّل اتجاه سلاح «المقاومة» بعيداً عن غايته المعلنة وصوّبه على المدن والقرى السورية.
وأزعم، هنا، أن الربط بين غزو العراق عام 2003 والتهديد الأجوف بضرب سوريا عام 2013 يشكل إهانة لأي محلل عاقل. ذلك أن تطورات الأسابيع الأخيرة تثبت زيف الكلام عن «المؤامرة» التي يكررها نظام دمشق.. ابتداء من رفض مجلس العموم البريطاني المشاركة في الضربة العسكرية، إلى ارتياح باراك أوباما «لانتصاره الدبلوماسي» الذي سلم فيه مفاتيح الشرق الأوسط لفلاديمير بوتين، ومروراً بحرص جون كيري على طمأنة بنيامين نتنياهو على نزع سلاح سوريا الكيماوي.. أين المؤامرة هنا؟ وضد من؟
هل يؤمن هؤلاء اليوم بأن القرار السياسي في المشرق العربي مازال عربياً؟ وهل يرى «القومجيون» جدياً أن القيادة الإيرانية مؤمنة بعروبة المعركة ضد إسرائيل أو الإمبريالية - حسب تعابيرهم؟
أما في الشق الأخلاقي.. فالمصيبة أكبر.
هنا نحن إزاء «قومجيين» انتهازيين يجيدون تبديل ولاءاتهم - بل تبعيتهم - من جهة إلى أخرى معادية لها، أو وفق المثل الشعبي «نقل البندقية من كتف إلى كتف».
وعلى صعيد حقوق الإنسان فإن الثابت الوحيد في ممارساتهم السياسية هو أنهم ما أقاموا ولا يقيمون وزناً لقيمة الإنسان وحقوقه وكرامته. فهم على امتداد عقود برروا التسلط وإساءة استخدام السلطة ومصادرة الحريات وتدمير التعايش ونهب الثروات الوطنية.. تحت شعار «العروبة».
وبالنتيجة جعلوا العروبة مرادفاً لكل هذه الجرائم.
هل يضيرهم بعد كل هذا إعلانهم تأييدهم نظاماً يقتل شعبه على مرأى ومسمع من العالم؟
نقلاً عن صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية
كرر الكلمة ومشتقاتها كثيرون من مؤيدي غزو العراق من معسكرين متضادين: الأول إسلامي شيعي متشدد، والثاني يساري شيوعي متلوع. يومذاك جمعت هذين «المعسكرين» مصيبة العداء لصدام حسين، الحاكم في حينه باسم «عروبة» حزب البعث العربي الاشتراكي.
شخصياً كنت أتضايق من استخفاف «المعسكرين» الشيعي والشيوعي بالقومية العربية والسخرية منها بهذا الشكل، على الرغم من علمي التام بسجل صدام حسين الفظيع في مجال حقوق الإنسان، وتعامله الإلغائي مع معارضيه، وفرضه على الهوية العربية صبغة قمعية دموية ألحقت وتلحق بها حتى اليوم أسوأ الانطباعات.
لقد كنت، وما زلت، ضد الغزو بالطريقة التي تم بها فصولاً، ليس حباً في حكم تسلطي ديكتاتوري متخلف.. بل لقلقي من غياب أي تصور حقيقي عند القوى الغازية لـ «سيناريو» اليوم التالي. وربما سينزعج بعض الإخوة والأحباء في دول الخليج، والعراق بالذات، من كلامي هذا.. غير أنني كنت معارضاً لغزو يدمر من دون أن يكون في حساباته البناء بعد التدمير. بل غزو يرفض التنبه للحساسيات والتفاعلات المتصلة بالنسيج الاجتماعي العراقي، ويرفض توضيح تصوره لـ «عراق ما بعد صدام» ضمن الخريطة الإقليمية للشرق الأوسط.. وهو الكيان المهدد بالطموحات الإيرانية والتركية، والعداوة الإسرائيلية، وأحلام الاستقلال الكردية.
باختصار، كنت ضد غزو العراق بقدر ما كنت ضد بقاء ديكتاتورية صدام حسين التي أسهمت عبر «إدارتها» الدموية للملف السني الشيعي والملف الكردي، في تمزيق الوحدة الوطنية العراقية، وسوغت لفريق كبير من العراقيين الارتماء في أحضان إيران.. وغير إيران.
هذا كان الحال عام 2003. أما اليوم، بعد عقد من الزمن، فإننا نجد أنفسنا أمام واقع إقليمي جديد خلقه ذلك الغزو، يمكن اختصاره بتسليم إيران كامل المنطقة من الحدود الإيرانية – العراقية إلى شاطئ شرق المتوسط، عبر حكومة نوري المالكي في العراق ونظام بشار الأسد في سوريا وهيمنة «حزب الله» على لبنان.
الغائب الأكبر في هذه المنطقة هو العروبة، بمعنى العروبة الحقة، مع أن أبواق الإعلام السوري ما زالت تتاجر بعروبتها المصطنعة فوق أجساد السوريين وأنقاض مدنهم وقراهم. وبالأمس، بينما كان نظام دمشق يعد العدة لإتلاف سلاح كيماوي لم يستخدمه كغيره من الأسلحة إلا على شعبه، استضافت العاصمة اللبنانية بيروت ملتقى حمل اسم «المنتدى العربي الدولي لمناهضة العدوان على سوريا»، حضرته 450 شخصية من 30 دولة، كما جاء في البيانات والتقارير الإعلامية. أما الجهة الداعية للملتقى فهي «المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن»، وهي مؤسسة بدا لي من أسماء مسؤوليها أنها تمثل تيارا كان قبل 2003 مقربا جداً من صدام حسين والنسخة العراقية «أو القومية» من حزب البعث.
لكن ظروف النضال «القومي» فرضت على هؤلاء التقرب من الجهات نفسها التي حرضت على صدام واستفادت من إسقاطه ودفعت باتجاه إعدامه، بينما العراق لا يزال يرزح تحت الاحتلال.
«قومجيو» ملتقى بيروت لم تستفز «عروبتهم» مشاهد القتل والدمار في سوريا منذ أكثر من سنتين ونصف السنة، ولم يجدوا غضاضة في الإصغاء إلى الشيخ نعيم قاسم الذي يمثل حزباً دينياً بعيداً جداً عن علمانية هؤلاء «القومجيين». وطبعاً، لم تضايقهم كلمات سفير النظام السوري التي تصر على التصدي لـ«المؤامرة» التي اخترقت أكثر من 40 سنة من حكم الاستخبارات، وسفير روسيا الرافض تماما لـ «التدخل الخارجي».. الذي لا يندرج تحته - على ما يبدو - إرسال السلاح الروسي وألوف المقاتلين العراقيين واللبنانيين والإيرانيين.
نحن هنا أمام مأزقين، فكري وأخلاقي، كبيرين.. في الشق الفكري غدا واضحاً أن من يزعمون العروبة ويطبلون لها ويزمرون يفتقرون إلى القدرة على تعريفها.
يعجزون عن فهمها خارج نماذج الفرض والتسلط والهيمنة أو المحسوبية والاستزلام وشراء النفوذ.
ثم لا يستطيعون تمييز ما هو قومي وما لا علاقة له بالقومية، وبين من يؤمن حقاً بهويته العربية ومن يستغلها شعاراً نفعياً للتأجير والمقايضة.
إن ثمة إشكالية فعلية في فهم معنى العروبة عند أولئك الذين تجمعوا في بيروت بالأمس تضامناً مع نظام أهرق الدم العربي على امتداد أكثر من سبعة أشهر من دون أن ترفع المعارضة السورية السلاح، والذي حوّل اتجاه سلاح «المقاومة» بعيداً عن غايته المعلنة وصوّبه على المدن والقرى السورية.
وأزعم، هنا، أن الربط بين غزو العراق عام 2003 والتهديد الأجوف بضرب سوريا عام 2013 يشكل إهانة لأي محلل عاقل. ذلك أن تطورات الأسابيع الأخيرة تثبت زيف الكلام عن «المؤامرة» التي يكررها نظام دمشق.. ابتداء من رفض مجلس العموم البريطاني المشاركة في الضربة العسكرية، إلى ارتياح باراك أوباما «لانتصاره الدبلوماسي» الذي سلم فيه مفاتيح الشرق الأوسط لفلاديمير بوتين، ومروراً بحرص جون كيري على طمأنة بنيامين نتنياهو على نزع سلاح سوريا الكيماوي.. أين المؤامرة هنا؟ وضد من؟
هل يؤمن هؤلاء اليوم بأن القرار السياسي في المشرق العربي مازال عربياً؟ وهل يرى «القومجيون» جدياً أن القيادة الإيرانية مؤمنة بعروبة المعركة ضد إسرائيل أو الإمبريالية - حسب تعابيرهم؟
أما في الشق الأخلاقي.. فالمصيبة أكبر.
هنا نحن إزاء «قومجيين» انتهازيين يجيدون تبديل ولاءاتهم - بل تبعيتهم - من جهة إلى أخرى معادية لها، أو وفق المثل الشعبي «نقل البندقية من كتف إلى كتف».
وعلى صعيد حقوق الإنسان فإن الثابت الوحيد في ممارساتهم السياسية هو أنهم ما أقاموا ولا يقيمون وزناً لقيمة الإنسان وحقوقه وكرامته. فهم على امتداد عقود برروا التسلط وإساءة استخدام السلطة ومصادرة الحريات وتدمير التعايش ونهب الثروات الوطنية.. تحت شعار «العروبة».
وبالنتيجة جعلوا العروبة مرادفاً لكل هذه الجرائم.
هل يضيرهم بعد كل هذا إعلانهم تأييدهم نظاماً يقتل شعبه على مرأى ومسمع من العالم؟
نقلاً عن صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية