وفقاً للمعنى الشائع، فإن الديمقراطية مفردة إغريقية الأصل تعني «حكم الشعب»؛ أي أن الشعب هو الذي يدير أمور بلاده، ويسير شؤونه الخاصة بنفسه دون تدخلٍ أو رقابةٍ من جهةٍ أو قوى عليا مسيطرة، وهذا التعريف قد يكون واضحاً وضوح الشمس للوهلة الأولى، لكنه، للأسف، ليس كذلك، لأن بيت القصيد هنا يتمثل في الإجابة عن السؤال المركزي: من هو «الشعب»؟.
فعلى مدى التاريخ البشري المعاصر لم يتعرض مفهوم سياسي للتفسير الانتقائي والتشويه المتعمّد مثلما حل بهذا المفهوم، والسبب هو أن كلمة «الشعب» تشتق، من الناحية اللغوية، من الفعل الثلاثي «شعب»، أي جمع، ويقال «التأم شعبهم» أي تجمعوا بعد التفرق، إضافة إلى ذلك يقصد بمفردة «الشعب» أيضاً الطبقة الأولى لدى العرب، حيث كان جمهور الناس يتفرع إلى طبقاتٍ، وهي: الشعب، والقبيلة، والعمارة، والبطن، والفخذ، والفصيلة، وسميت الطبقة الأولى شعباً، فالشعب يجمع القبائل، لأن القبائل تتشعّب منه، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة تجمع البطون، وهكذا، فخزيمة مثلاً شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة، وهذا يعني أن الشعب، في الأصل، هو المكون الجامع لأفراد المجتمع، أي الكل المتحد الذي يعتصم بحبله الناس، ويشعرون وجدانياً في كنفه بالوحدة والترابط والتلاحم.
هكذا كان الحال في قديم الزمان، ولا يزال كذلك نسبياً. غير أن التطور الحضاري، والتقدم الاقتصادي والاجتماعي للبشرية، والذي تواصل فترةً زمنيةً تزيد عن أربعة عشر قرناً، ونزعة الطبقات المهيمنة على وسائل الإنتاج في كل حقبةٍ تاريخيةٍ لفرض إرادتها على «رعيتها»، إن جاز التعبير، أضفى تغييراً جذرياً على مفهوم الشعب، حيث حدث انفصال موضوعي، وقسري في معظم الأحيان، بين الطبقة الاستغلالية المسيطرة، وبقية أفراد «الشعب» الذين وجدوا أنفسهم يكدحون ليل نهار من أجل تلبية حاجاتها الاقتصادية، وإرضاء طموحاتها في الاستئثار بالثروة والجاه والنفوذ، والتحكم فيهم، إلى أن تمكنت هذه الطبقة من الصعود إلى قمة الهرم الاجتماعي، وبات أتباعها والمنتمين لها ينحدرون تحتها مباشرةً، أما «الشعب» فصار يقبع في قاعدة الهرم، رغم أنه كان يمثل القوّة الإنتاجية الكبرى التي يقع على كاهلها تأمين الخيرات المادية لمستغليها!