ليس في عداد المُستغرب أو المفاجئ ما يرتكبه مستوطنو الضفة والقدس من اعتداءات على المواطنين الفلسطينيين تهدد حياتهم وتخرب ممتلكاتهم وحقولهم وتتلف مزروعاتهم وتدنس مقدساتهم، وصولاً إلى ارتكاب المجازر بحقهم. فهذا النوع من الاعتداءات لم ينقطع يوماً منذ احتلال الضفة وغزة والقدس وبدء عمليات الاستيطان والتهويد فيها. ومن قبيل التدليل لا الحصر يكفي التذكير بمحاولة هؤلاء المستوطنين اغتيال ثلاثة من رؤساء البلديات الفلسطينيين المنتخبين: بسام الشكعة (نابلس)، وكريم خلف (رام الله)، وإبراهيم الطويل (البيرة)، العام 1980، والهجوم على طلبة جامعة الخليل العام 1984، ومحاولة تسميم خزانات مياه المدارس في محافظة جنين العام 1984، ومرابطة حاخام مستوطنة كريات أربع، الفاشي موشي ليفنغر، قبالة مخيم الدهيشة مدة عامين، وارتكاب المستوطن المأفون باروخ غولدشتاين مجزرة الحرم الإبراهيمي في الخليل العام 1993. علماً أن هذا كله، وغيره أكثر، كان حصيلة عمل عصابي منظم عبر عن نفسه تدريجياً من خلال منظمات السطو على الأرض مثل «عصبة غوش إيمونيم»، وتطور إلى تشكيل عصابات القتل السرية لبث الرعب في نفوس المواطنين مثل منظمة «إرهاب ضد إرهاب».
لكن الجديد أن اعتداءات هؤلاء المستوطنين بدأت تأخذ شكلاً أكثر سفوراً واتساعاً وعلانية مستندة إلى تبنٍ سياسي رسمي من «حكومة المستوطنين» بقيادة نتنياهو، وإلى ارتياح قادة المؤسستين العسكرية والأمنية «الإسرائيليتين» لوجود مَن ينوب عنهم في تنفيذ «الأعمال القذرة».
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الاعتداءات لم يعد مجالها مقتصراً على سكان الأراضي المحتلة العام 1967؛ بل امتد ليشمل المواطنين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة العام 1948، وكانت البداية في ارتكاب مجزرة شفا عمرو عام 2008، وصولاً إلى الاعتداء على قرية أم القطف الوادعة في المثلث الشمالي قبل عدة أيام، ما يدل على أن هذه الاعتداءات ليست رد فعلٍ، إنما هي جزء من مخطط استيطاني قديم جديد يلعب المستوطنون فيه دوراً بارزاً، مستغلين فرصة تغلغلهم في المؤسستين السياسية والعسكرية للعب دور أكبر في عمليات التطهير العرقي. فإذا كانت حركة «الكيبوتسات» والحركات الصهيونية الشبابية «الطليعية» التي لبست لبوس اليسارية، هي مَن أسس القاعدة التحتية للكيان الصهيوني قبل قيامه وبعده، فإن الحركات الاستيطانية اليوم تشكل التعبير الأوضح عن طموح تجديد شباب المشروع الصهيوني كمشروع استعماري استيطاني إقصائي قام -منذ البدء- على العدوان والتوسع والاقتلاع. ما يعني أن الاستيطان في تراكمه على مدار 45 عاماً في الضفة والقدس تحول إلى حالة كيفية أشد خطورة من السابق. حالة صار لها قسماتها وخصائصها المتواشجة مع حالة من السعار السياسي والأيديولوجي اليميني المتطرف داخل المجتمع والفكر والسياسة والأمن في «إسرائيل».
لعل ما تقدم يفسر حدوث هذا التطور النوعي في إرهاب المستوطنين اليهود الذي بلغ أقصاه في تكثيف الهجمة على القدس والمسجد الأقصى المراد تقسيمه على غرار ما حصل للحرم الإبراهيمي في الخليل. فحين يجرؤ المستوطنون على تجنيد 60 ألفاً ويزيد لاستباحة باحات الأقصى، فإن ذلك يدل، بلا لبس أو إبهام، على مدى القوة والنفوذ اللذين بات يتمتع بهما مستوطنو الضفة والقدس داخل المجتمع الصهيوني عموماً.
فالكيان الصهيوني يشهد -منذ سنوات- جملة تحولات بنيوية تدفع نحو المزيد من العدوانية والتطرف والتشدد. ومن بين أشد هذه التحولات خطورة هو انتقال مستوطني الضفة والقدس إلى مركز صناعة القرار في السياسة والجيش. إذ ثمة لهؤلاء المستوطنين، ولتيارهم الصهيوني الديني بالذات، أكثرية داخل مكتب نتنياهو، بما في ذلك مستشاره للأمن القومي اللواء احتياط يعقوب عميدور، وسكرتير حكومته اللواء احتياط أفيجاي مندلبليت. ولهم في حكومة «إسرائيل» الحالية ستة وزراء ونواب وزراء يسكنون في مستوطنات، وهم؛ وزير الدفاع موشي يعالون، ويسكن في مستوطنة «مكابيم-ريعوت»، ووزير التربية والتعليم، شاي بيرون، ويسكن في مستوطنة «أورانيت»، ووزير الإسكان، أوري أرئيل، ويسكن في مستوطنة «كفار أدوميم»، والوزير أوري أورباخ، ويسكن في مستوطنة «موديعين»، ونائب الوزير إيلي بن دهان، ويسكن في مستوطنة «هار حوماه» في جبل أبو غنيم، ونائب وزير الخارجية، زئيف ألكين، ويسكن في مستوطنة «كفار ألداد».
ولهم في الكنيست الحالية 16 نائباً يسكنون في مستوطنات وينتمون إلى أكثر من حزب. هذا علاوة على أن ثلث الرتب العسكرية المتوسطة في الجيش «الإسرائيلي» يشغلها اليوم مستوطنون ينتمون إلى التيار الصهيوني الديني، فضلاً عن أن عدداً من هؤلاء المستوطنين بات يشغل مناصب عسكرية وأمنية رفيعة، وكل ذلك وفقاً لكتاب صدر مؤخراً للباحث «الإسرائيلي» ياغيل ليفي بعنوان: (بين القلنسوة والبيريه - الدين والسياسة والجيش في «إسرائيل»).
يحيل ما تقدم إلى أن «الاستيطان جوهر الصهيونية»، كما كثف ذلك شامير، أحد أكثر قادة «إسرائيل» تطرفاً وتشدداً. فالمشروع الصهيوني قام -منذ نشأته- على استهداف الأرض والبشر الفاعلين عليها، ما جعل الدفاع عن الأرض وحمايتها محور كفاح الشعب الفلسطيني. لكن هذا الكفاح المتواصل عبر قرن من الزمان لم ينجح في الحفاظ على هوية الأرض بمنطق السيادة السياسية وحتى الوجود الجغرافي، حيث لم يبق بيد الفلسطينيين من أرضهم سوى 15%، وفقاً لمركز الإحصاء الفلسطيني.
لكن في الحالات كافة، فإن تمادي المستوطنين لم يكن ليكون أو لم يكن ليكون بهذه الحدة لولا ما يشهده راهن النخب السياسية الفلسطينية -بتركيبتها وصراعاتها وانقساماتها- من عجز عن بناء استراتيجية وطنية واحدة للدفاع عن الأرض وحمايتها وتعزيز صمود أهلها عليها.
فاليوم لم يعد مبالغة القول: إنه بمقدار ما إن المشروع الصهيوني واضح في أهدافه تجاه الأرض واستيطانها وتهويدها، فإن المشروع الوطني الفلسطيني ملتبس ومشوش ومبلبل، بل وتسود أطره القيادية حالة من الارتجالية والتنابذ القائم على مصالح نخبوية وفئوية ضيقة لا علاقة لها بالأرض والشعب، وما يتعرضان له على يد المستوطنين من استباحة شاملة ومخططة، استباحة بالمقدور الرد عليها سياسياً وميدانياً. إذ، ألم يترك جزء كبير من هؤلاء المستوطنين بيوتهم يوم كان الصف الوطني الفلسطيني موحداً وفاعلاً في فترة الانتفاضة الشعبية الأولى (1987-1993)، وفي فترة الانتفاضة المسلحة الثانية (2000-2004)؟
ثم أليس من شأن التقدم بشكوى فلسطينية إلى محكمة الجنايات الدولية أن يجبر حكومة نتنياهو على لجم هؤلاء المستوطنين ومنعهم من التمادي في ارتكاب المزيد من جرائمهم التي فاقت كل تصور؟
عن «الخليج» الاماراتية
لكن الجديد أن اعتداءات هؤلاء المستوطنين بدأت تأخذ شكلاً أكثر سفوراً واتساعاً وعلانية مستندة إلى تبنٍ سياسي رسمي من «حكومة المستوطنين» بقيادة نتنياهو، وإلى ارتياح قادة المؤسستين العسكرية والأمنية «الإسرائيليتين» لوجود مَن ينوب عنهم في تنفيذ «الأعمال القذرة».
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الاعتداءات لم يعد مجالها مقتصراً على سكان الأراضي المحتلة العام 1967؛ بل امتد ليشمل المواطنين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة العام 1948، وكانت البداية في ارتكاب مجزرة شفا عمرو عام 2008، وصولاً إلى الاعتداء على قرية أم القطف الوادعة في المثلث الشمالي قبل عدة أيام، ما يدل على أن هذه الاعتداءات ليست رد فعلٍ، إنما هي جزء من مخطط استيطاني قديم جديد يلعب المستوطنون فيه دوراً بارزاً، مستغلين فرصة تغلغلهم في المؤسستين السياسية والعسكرية للعب دور أكبر في عمليات التطهير العرقي. فإذا كانت حركة «الكيبوتسات» والحركات الصهيونية الشبابية «الطليعية» التي لبست لبوس اليسارية، هي مَن أسس القاعدة التحتية للكيان الصهيوني قبل قيامه وبعده، فإن الحركات الاستيطانية اليوم تشكل التعبير الأوضح عن طموح تجديد شباب المشروع الصهيوني كمشروع استعماري استيطاني إقصائي قام -منذ البدء- على العدوان والتوسع والاقتلاع. ما يعني أن الاستيطان في تراكمه على مدار 45 عاماً في الضفة والقدس تحول إلى حالة كيفية أشد خطورة من السابق. حالة صار لها قسماتها وخصائصها المتواشجة مع حالة من السعار السياسي والأيديولوجي اليميني المتطرف داخل المجتمع والفكر والسياسة والأمن في «إسرائيل».
لعل ما تقدم يفسر حدوث هذا التطور النوعي في إرهاب المستوطنين اليهود الذي بلغ أقصاه في تكثيف الهجمة على القدس والمسجد الأقصى المراد تقسيمه على غرار ما حصل للحرم الإبراهيمي في الخليل. فحين يجرؤ المستوطنون على تجنيد 60 ألفاً ويزيد لاستباحة باحات الأقصى، فإن ذلك يدل، بلا لبس أو إبهام، على مدى القوة والنفوذ اللذين بات يتمتع بهما مستوطنو الضفة والقدس داخل المجتمع الصهيوني عموماً.
فالكيان الصهيوني يشهد -منذ سنوات- جملة تحولات بنيوية تدفع نحو المزيد من العدوانية والتطرف والتشدد. ومن بين أشد هذه التحولات خطورة هو انتقال مستوطني الضفة والقدس إلى مركز صناعة القرار في السياسة والجيش. إذ ثمة لهؤلاء المستوطنين، ولتيارهم الصهيوني الديني بالذات، أكثرية داخل مكتب نتنياهو، بما في ذلك مستشاره للأمن القومي اللواء احتياط يعقوب عميدور، وسكرتير حكومته اللواء احتياط أفيجاي مندلبليت. ولهم في حكومة «إسرائيل» الحالية ستة وزراء ونواب وزراء يسكنون في مستوطنات، وهم؛ وزير الدفاع موشي يعالون، ويسكن في مستوطنة «مكابيم-ريعوت»، ووزير التربية والتعليم، شاي بيرون، ويسكن في مستوطنة «أورانيت»، ووزير الإسكان، أوري أرئيل، ويسكن في مستوطنة «كفار أدوميم»، والوزير أوري أورباخ، ويسكن في مستوطنة «موديعين»، ونائب الوزير إيلي بن دهان، ويسكن في مستوطنة «هار حوماه» في جبل أبو غنيم، ونائب وزير الخارجية، زئيف ألكين، ويسكن في مستوطنة «كفار ألداد».
ولهم في الكنيست الحالية 16 نائباً يسكنون في مستوطنات وينتمون إلى أكثر من حزب. هذا علاوة على أن ثلث الرتب العسكرية المتوسطة في الجيش «الإسرائيلي» يشغلها اليوم مستوطنون ينتمون إلى التيار الصهيوني الديني، فضلاً عن أن عدداً من هؤلاء المستوطنين بات يشغل مناصب عسكرية وأمنية رفيعة، وكل ذلك وفقاً لكتاب صدر مؤخراً للباحث «الإسرائيلي» ياغيل ليفي بعنوان: (بين القلنسوة والبيريه - الدين والسياسة والجيش في «إسرائيل»).
يحيل ما تقدم إلى أن «الاستيطان جوهر الصهيونية»، كما كثف ذلك شامير، أحد أكثر قادة «إسرائيل» تطرفاً وتشدداً. فالمشروع الصهيوني قام -منذ نشأته- على استهداف الأرض والبشر الفاعلين عليها، ما جعل الدفاع عن الأرض وحمايتها محور كفاح الشعب الفلسطيني. لكن هذا الكفاح المتواصل عبر قرن من الزمان لم ينجح في الحفاظ على هوية الأرض بمنطق السيادة السياسية وحتى الوجود الجغرافي، حيث لم يبق بيد الفلسطينيين من أرضهم سوى 15%، وفقاً لمركز الإحصاء الفلسطيني.
لكن في الحالات كافة، فإن تمادي المستوطنين لم يكن ليكون أو لم يكن ليكون بهذه الحدة لولا ما يشهده راهن النخب السياسية الفلسطينية -بتركيبتها وصراعاتها وانقساماتها- من عجز عن بناء استراتيجية وطنية واحدة للدفاع عن الأرض وحمايتها وتعزيز صمود أهلها عليها.
فاليوم لم يعد مبالغة القول: إنه بمقدار ما إن المشروع الصهيوني واضح في أهدافه تجاه الأرض واستيطانها وتهويدها، فإن المشروع الوطني الفلسطيني ملتبس ومشوش ومبلبل، بل وتسود أطره القيادية حالة من الارتجالية والتنابذ القائم على مصالح نخبوية وفئوية ضيقة لا علاقة لها بالأرض والشعب، وما يتعرضان له على يد المستوطنين من استباحة شاملة ومخططة، استباحة بالمقدور الرد عليها سياسياً وميدانياً. إذ، ألم يترك جزء كبير من هؤلاء المستوطنين بيوتهم يوم كان الصف الوطني الفلسطيني موحداً وفاعلاً في فترة الانتفاضة الشعبية الأولى (1987-1993)، وفي فترة الانتفاضة المسلحة الثانية (2000-2004)؟
ثم أليس من شأن التقدم بشكوى فلسطينية إلى محكمة الجنايات الدولية أن يجبر حكومة نتنياهو على لجم هؤلاء المستوطنين ومنعهم من التمادي في ارتكاب المزيد من جرائمهم التي فاقت كل تصور؟
عن «الخليج» الاماراتية