قال الكاتب الأمريكي الساخر مارك توين ذات مرة، إنه في كل مرة يجد المرء نفسه في جانب الأغلبية السائدة، فإن الوقت يكون قد حان للإصلاح والتغيير والتطوير.. وفي مجال استنزاف الثروات والموارد العربية بشكل عام والخليجية بشكل خاص من المياه والنفط وأشكال الطاقة التشغيلية، فربما يكون هذا هو الوقت المناسب للنظر بجدية إلى إصلاح حقيقي يعالج ما تتعرض له هذه الثروات والمقدرات من هدر واستنزاف واستخدام بشري وصناعي جائر على أيدي الأغلبية السائدة.
إن أكثر ما تعاني منه الثروات والموارد القومية والوطنية من المياه والكهرباء والطاقة بشكل خاص، هو الهدر السائد في المجتمعات العربية كثقافة عامة تنتشر بين جميع طبقات وفئات هذه المجتمعات بشكل عام، وبحيث تتشكل فيها أغلبية كبرى تتفوق على كل الأغلبيات السياسية والحزبية وحتى الطائفية والعددية الأخرى؛ هي الأغلبية التي تمارس الهدر كثقافة عامة وسلوكيات يومية..!
وفي الوقت الذي كنت أعمل فيه على الإعداد لهذه المقالة، فقد وقع بين يدي كتاب سوف أنصح الجميع بقراءته والاطلاع عليه، باعتباره من أفضل الكتب العربية التي تحلل وبجدية علمية مبسطة ما يمكن تسميته بـ»ثقافة الهدر.. في المجتمعات العربية». عنوان الكتاب هو: «الإنسان المهدور».. وهو عبارة عن دراسة تحليلية نفسية اجتماعية لامعة للدكتور مصطفى حجازي..
واللافت في هذا الكتاب هو إشارة المؤلف إلى أن ثقافة الهدر في المجتمعات العربية عموماً تبدأ من هدر الوقت مروراً بهدر الفكر والوعي والإبداع.. وصولاً إلى طريقة تعامله مع المياه والكهرباء في بيته وانتهاء بتعامله مع ثروات وطاقات الوطن والمجتمع..!
وحتى نضع النقاط على الحروف، ونستعين بالأرقام، فأمامي الآن تصريح جديد «11/5/2013» لوكيل وزارة المياه والكهرباء في المملكة العربية السعودية يقول فيه: «إن استهلاك المشروعات الزراعية التي لم يكتب لها النجاح في المملكة خلال 30 سنة استنزف ما يعادل الاستهلاك البلدي لمياه الشرب لمدة 250 سنة..!»، وتصادف في الوقت نفسه تقريباً أنني قرأت تصريحاً للرئيس التنفيذي لمركز أبوظبي العالمي للتميز المؤسسي البروفيسور هادي التيجاني، يؤكد فيه أن مستوى الهدر في الصناعات التشغيلية العربية، أو ما يسمى بـاللاجودة يقدر بنحو 55% من كلفة التشغيل..! فيما يؤكد وزير لبناني مسؤول عن حقيبة الطاقة أن الهدر في الطاقة الكهربائية يصل إلى 40% وفي المياه يتجاوز 55%!
بالعودة إلى المجتمعات الخليجية؛ تطالعنا دراسة كشف عنها الإعلامي السعودي داود الشريان في برنامجه المميز «الثامنة» أن 86% من المواطنين لا يعلمون أن هناك شحاً في المياه، وأن المياه المستهلكة في الزراعة هي العامل الأول في شح المياه بنسبة 80%، في حين لا يتجاوز الاستهلاك المنزلي 8%.
ومن المملكة العربية السعودية إلى البحرين؛ حيث عثرت على محاضرة علمية للمهندس سعيد العسبول كشف فيها عن أن البحرين تنتج من المياه 179 مليون جالون في اليوم، يدخل منها 110 ملايين جالون في شبكة المياه للتوزيع والاستخدام فيما يرمى 55 مليون جالون يومياً في البحر! وهنا فإن الهدر مضاعف ومتعدد، حيث يشمل الهدر في المياه والهدر في الطاقة الكهربائية المستخدمة في التحلية إضافة إلى الهدر في الوقت والجهد والتكاليف..! أما الرقم الذي أعلنه الوزير السابق المسؤول عن المياه والكهرباء فأكثر مدعاة للدهشة والاستغراب؛ بل الصدمة، حيث أكد أن نسبة الهدر اليومي في المياه التي تصل إلى البيوت والمنازل تتجاوز 30%!
في الجانب الآخر من معادلة المياه والكهرباء فثمة دراسة كشفت عنها الوزارة المعنية تشير إلى أن نسبة الهدر في الطاقة الكهربائية نتيجة الاستخدام اليومي تصل إلى 20%، وهو باعتقادي رقم متواضع لا يمثل الحقيقة. لأن الدراسات التي بين يديَّ على بساطتها، والدراسات التي أعمل عليها شخصياً تشير إلى أن بالإمكان توفير أكثر من 40% من الطاقة الكهربائية المستخدمة في أجهزة التبريد على نحو خاص، لو تمت ممارسة سياسة راشدة وحصيفة في تشغيل هذه الأجهزة.. ولو تم استخدام تقنيات حديثة وعصرية كبديل عن التقنيات التقليدية السائدة فسوف يتم تحقيق وفر في الطاقة الكهربائية يصل إلى 60%!
إن العالم كله يواجه مشكلة كبيرة تتمثل في شح الطاقة وتناقصها، وفي الممارسات الجائرة على الثروات والموارد الطبيعية. في حين أن البحرين والمنطقة تعاني من مشكلة ترسخ ثقافة هدر الطاقة وأنماط الاستخدام الجائر في مختلف أنواع استهلاك الطاقة، حيث تشير الدراسات البحرينية الرسمية مثلاً؛ إلى أن استهلاك الفرد في البحرين للطاقة يعد خمسة أضعاف استهلاك الفرد في اليابان، أما استهلاك الفرد السعودي فيتعدى 13 ضعفاً مقارنة مع الياباني! وترتفع المعادلة بالنسبة إلى الفرد الإماراتي لتصل إلى 18 ضعفاً. وهي أرقام وكميات مذهلة ومن شأنها أن تقرع في آذان كل المسؤولين والمخططين أجراساً من الخطورة لا نهاية لها.
بالمناسبة؛ أذكر هنا أن المهندس عبدالمجيد القصاب رئيس جمعية المهندسين البحرينيين، أطلق عبارة حصيفة للغاية ولامعة في سياق مشاركته في «معرض وورشة حفظ وترشيد الطاقة» الذي أقيم في البحرين عام 2008 حين قال: «إن حل إشكالية الهدر في الطاقة يكمن في كلمة واحدة هي نحن..». وأعتقد أن المهندس القصاب أصاب كبد الحقيقة ، فثمة نصيب هو الأكبر والأوفر لقضية المسؤولية الجماعية في أية مقاربة لحل إشكالية الهدر في الطاقة، سواء على مستوى وطني أو إقليمي أو عالمي.. فالمواطن الذي لا يتمتع بالوعي الكافي لدفعه لترشيد استهلاكه للمياه والكهرباء باعتبارها ثروات مشتركة للجميع، يصبح جزءاً من المشكلة. وكل وعي في مسألة الترشيد، وكل تطوير وتغيير إيجابي في أنماط الاستخدام اليومي للمياه والكهرباء يعتبر جزءاً من الحل وجزءاً من الوفر الناتج عن حصافة الاستخدام، ليس على المستوى الشخصي فقط بل على المستوى الوطني أيضاً..
هناك بالطبع مسؤوليات على مستوى الحكومات والسياسات العامة في الدولة، ومسؤوليات على مستوى إدارة الاستخدام والتشغيل والجودة على مستوى الوزارات والأجهزة الحكومية المعنية، وهناك مسؤوليات على مستوى الشركات الصانعة للتقنيات والأجهزة وعلى مستوى الخبراء والفنيين، وهناك أيضاً مسؤوليات على مستوى المواطن العادي، هذا بالطبع إلى جانب مسؤوليات الإعلام والتوعية والإرشاد الأسري والديني.
ومن اللطيف هنا أن أشير إلى مدى تدقيق الإسلام في مسألة الهدر واعتباره مسؤولية فردية تتصل على نحو مباشر بالمسؤولية الجماعية، ففي حديث للرسول عليه الصلاة والسلام يحض على عدم الإسراف في الوضوء ولو على نهر جارٍ.
ختاماً؛ لاشك أن ثقافة الهدر أصبحت من المشكلات التي تستنزف جزءاً كبيراً من حجم الاقتصاد الوطني، خاصة إذا علمنا أنه يصل إلى ما نسبته 40% من الناتج المحلي للعالم العربي. وبالنظر إلى أن الفاقد التنموي نتيجة ثقافة الهدر والاستخدام الجائر لمقدرات الطاقة والمياه يصل إلى نحو 33% من الناتج المحلي على المستوى العربي، فإنه لابد في هذه الحال من بذل جهود كبيرة من أجل تعميم ثقافة عامة وخاصة مضادة ومكافئة لثقافة الهدر، من أجل التعريف بالحجم الكبير والمتزايد للمشكلة، ومن أجل تعليق أجراس الخطر بطريقة إيجابية واعية وحصيفة، ومن أجل تقديم الدراسات الحقيقية حولها واستنباط الحلول المناسبة لمعالجتها كظاهرة ثقافية وسلوكية أولاً، ومعالجة معطياتها وما يترتب عليها من فقد لمقدرات هائلة على المستوى الوطني وعلى المستويات الفردية أيضاً.
ويبقى بعد أن نكون تعرفنا على أصول المشكلة وما يوازيها من مظاهر ومعطيات ونتائج خطيرة على المجتمع والاقتصاد وعلى وفرة الموارد نفسها.. يبقى أن نتحدث عن الحلول؛ وعن التقارب الثقافي والاجتماعي والتقني مع المشكلة أو الظاهرة، وصولاً إلى إنتاج معطيات حقيقية على أرض الواقع تقود إلى تحقيق وفورات حقيقية سواء في فاتورة الكهرباء والمياه بالنسبة للفرد والأسرة أو في الفاتورة الوطنية. وهو ما سيكون موضوع المقالة التالية.
خبير دولي في الطاقة