في بداية الثورة ومع اشتداد العنف من جانب النظام، كان من يعرفون تاريخه يعتقدون بل يتوقعون أنه لن يتأخر في طرح تسوية داخلية إن لم يكن لإجهاض الحراك الشعبي فأقله للحفاظ على الحكم والسلطة، وكانوا يقولون إنه انحنى سابقاً للأعداء والخصوم ومنهم إسرائيل وتركيا العسكر والولايات المتحدة وسعى إلى تسويات معهم فلا شك أنه سيتصرف إزاء الأزمة بالأسلوب نفسه، خصوصاً أن لديه الكثير مما يتنازل عنه لأن بقاءه أهم عنده من أن يخوض حرباً ضد الشعب لا بد من أن يخسرها في نهاية المطاف. لكنه لم يفعل، ومرت فترات كان الغرب يناشده فيها أن يعود إلى رشده ويجنح إلى التصالح، بل كان يصف له خريطة الطريق ويرشده إليه على نحو كان يثير قلق المعارضين الذين أدركوا أنه إذا أخذ بالنصائح فسيكتب عمراً جديداً لحكمه حتى لو تخلى لهم عن بعض المواقع الهامشية. لكنه لم يفعل، واعتبرها من اللحظة الأولى معركة وجود.
بعد مرور عام ونيف كان هناك من يعتقد أن إيران، التي تدعم النظام وتستجلب العون من مصادر أخرى مثل العراق، هي التي ستعمل براغماتيتها وواقعيتها وتتوصل إلى ترشيد تهوره، طالما أنها أخفقت في استخدام مفاوضاتها النووية لإنقاذه، لكنها تعرف أن ثمة مؤشرات مواتية يمكن استغلالها مع روسيا وبعض الدول الغربية غير المتحمسة لإسقاطه من أجل تسوية لا تخلو من المعقولية. لكن إيران لم تفعل، بل على العكس سارت في ركاب خططه وزادت عليها التصميم على دحر «المؤامرة على محور المقاومة»، وها هي باتت تنافسه في التعصب وفي السعي إلى «إشعال المنطقة» وفي تأجيج الاحتقان الطائفي والمذهبي حتى لو أدى ذلك إلى تحطيم سمعة «حزب الله» وجعله مجرد ميليشيا مسلحة تلوثت بندقيتها بدماء الشعبين السوري واللبناني.
حتى أسابيع قليلة مضت كان هناك أيضاً من يعتقد أن إشارة التغيير ستأتي من روسيا، فهي دولة كبرى وعليها من المسؤوليات ما يلزمها بوقف إراقة الدماء، ولديها من المعطيات ما يوضح أن كل «التدخلات» الخارجية التي يحكى -وهي تحكي بدورها- عنها لا تعدو الاستغلال العشوائي للأزمة، إذ لم يتعرض النظام في أي مرحلة لتهديد حقيقي مباشر لإسقاطه، ثم إن الاتصالات التي لم تنقطع مع الأمريكيين أفهمت الروس أن الغرب لن يتدخل وأن الهدف الثابت لإدارة باراك أوباما كان ولا يزال إيجاد حل سياسي.
لكن روسيا لم تلعب اللعبة، لأن في إطالة الصراع مصلحة مباشرة لها طالما أن النظام صامد، وفيها أيضاً إرباك يشعر الغرب بأنه في صدد خسارة مكانة ومواقع له في المنطقة. وها هي روسيا تسعى إلى مصالحها كدولة كبرى، لكنها تهبط بسياستها إلى مستوى الدول المارقة ولا تتردد في استنساخ العقلية السياسية للنظامين السوري والإيراني لتدير بها الأزمة على طريقتها.
وهكذا فإن هذا الرمق من الاتزان والتعقّل والواقعية الذي توقعه الباحثون عن «حل سياسي» لم يتوافر في أي مرحلة، لا عند النظام ولا عند أي من حليفيه الأساسيين، بل اتخذ التطرف عند كل منهم منحىً تصاعدياً. واذا كان هناك انطباع خرج به الرؤساء السبعة من أداء زميلهم الروسي، في قمة الدول الثماني، فلا بدّ من أنهم تأكدوا أن «جنيف 2» و»الحل السياسي» هما عنده مجرد وسيلة للاستمرار في الحرب. فهو «شريكـ»هم ضد «الإرهابيين»، لكنه يستخدمهم ضدهم. وهو شريكهم في تصور نهاية سياسية للأزمة لكنه شريك النظامين السوري والإيراني في إبعاد هذه النهاية أو تطويعها عسكرياً لمصلحته مع حليفيه. وهو «شريك»هم في الحديث عن استقرار المنطقة عموماً، لكنه شريك حليفيه في جعل المنطقة مصيدة للغربيين ومشروع هزيمة جديدة لحلفائهم العرب في شكل خاص. وهو «شريك»هم في رفض انزلاق الصراعات في سورية وحولها إلى الدرك الطائفي - المذهبي، لكنه أيضاً شريك وحليف من يزكي نار الحروب الدينية. وهو شريكهم في ضمان أمن إسرائيل ومصالحها، ويُفترض أن إسرائيل شريكتهم أيضاً في ما أعلنوا أنهم يريدونه لسورية والسوريين، لكن أهداف روسيا وإسرائيل تلتقي أكثر حالياً مع أهداف النظامين السوري والإيراني.
بعد قرار تسليح المعارضة، من المؤكد أن روسيا وإيران تتهيآن لمستوى تسليحي أعلى للنظام منعاً لأي توازن ميداني. إذ أصبحت لعبة الحرب بالواسطة مكشوفة على نحو مروع، لأن المساعي السياسية بما فيها الاتصالات الأمريكية - الروسية باتت أكثر إيحاءً بأنها تتم على خلفية خلاف ولا تنطلق من اتفاق صلب كما أشاع الطرفان في بداية مايو الماضي.
مرة أخرى أين الخطأ، بالأحرى أين الخلل؟ وهل يتعلق فقط بالشأن السوري أم بأهداف أخرى تحاول روسيا تحقيقها من خلال سورية؟ يُفترض أن الأمريكيين فهموا أن «شريكهم» الروسي ليس معنياً بـ «جنيف 2» إلا إذا كان سيكرس بقاء النظام بشكل أو بآخر... وفيما حذّر بوتين من «الفراغ» الذي يمكن أن يتركه تنحي بشار الأسد، تولى وزير خارجية النظام وليد المعلم إعلان مفهوم الأسد للحل: «نحن ذاهبون إلى جنيف من أجل شراكة حقيقية وحكومة وحدة وطنية واسعة تضم جميع أطياف الشعب السوري»، أي أن المطروح توسيع الحكومة الحالية التابعة للأسد وأجهزته الأمنية، وهو ما كان عرضه قبل معركة القصير وأيام كان هناك «توازن» على الأرض.
أما الإصرار عليه الآن فيبدو إحباطاً لمساعي جنيف واستعداداً للذهاب إلى جولة دموية ضارية. متى تقرر مجموعة «أصدقاء سورية» أن التوازن عاد، إذا أفشل أي هجوم على حلب وحمص، أم إذا سيطر «الجيش الحر» على مواقع جديدة وأوقف عمليات النظام في ريف دمشق واستعاد محاصرة العاصمة؟ وعندئذ ماذا سيحصل، هل سيكون الأسد أكثر استعداداً للتنحي؟ هذا يتطلب أكثر من مجرد تجهيز المعارضة لتصمد في مواقعها في انتظار «جنيف 2».
أصبح واضحاً أن النظام وروسيا وإيران راهنت وتراهن على أن «الطرف الآخر» بجناحيه المحلي والدولي عاجز عن تغيير المعادلة وعن ترشيد أدائه وتوكيد تماسكه، وأنه لم تكن ولن تكون له رؤية لتنفيذ أهدافه. فالنظام وحليفاه لديهم خطة للقتل والتدمير إلى ما لا نهاية من أجل «الانتصار» على الشعب السوري، وقد توقفوا منذ زمن عن عد الضحايا، وأعطوا مثالاً غير مسبوق لما يمكن أن تكون عليه دولة منبثقة من الإرهاب.
ولا شك في أن المسؤولية الحاسمة باتت ملقاة على عاتق المعارضة أكثر من أي يوم مضى، وعليها أن تستكمل جاهزيتها للتفاوض إذا آن أوانه أو لاستثمار أي تحسن لوضع عسكرييها في الداخل. وقد عوّل الداعمون طويلاً عليها لتصنع كياناً يمكن الاعتماد عليه، صحيح أن تدخلاتهم لم تساعدها دائماً لكن الصحيح أيضاً أنها لم تتمكّن من التغلب على انقساماتها وطموحات أفرادها وصراعاتهم اللانهائية، حتى كأنهم وطّنوا أنفسهم على إبقاء شعبهم مشرداً ومشتتاً كما لو أن تضحياته الكبيرة لم تكف هذه المعارضة لتكون صوتاً واحداً. فهذا الرفض التلقائي لكل شخص قادر على إشاعة شيء من الثقة والصدقية، والتهافت على تحطيمه، لا يحول دون بناء كيان فاعل للمعارضة فحـسـب، بل يـشي بأنها لن تـتمـكن من بـناء أي بـديل للنـظـام وهـذا في حد ذاته يـخدم النظام الحالي من حيـث يـراد تغييره.
- عن «الحياة» اللندنية
بعد مرور عام ونيف كان هناك من يعتقد أن إيران، التي تدعم النظام وتستجلب العون من مصادر أخرى مثل العراق، هي التي ستعمل براغماتيتها وواقعيتها وتتوصل إلى ترشيد تهوره، طالما أنها أخفقت في استخدام مفاوضاتها النووية لإنقاذه، لكنها تعرف أن ثمة مؤشرات مواتية يمكن استغلالها مع روسيا وبعض الدول الغربية غير المتحمسة لإسقاطه من أجل تسوية لا تخلو من المعقولية. لكن إيران لم تفعل، بل على العكس سارت في ركاب خططه وزادت عليها التصميم على دحر «المؤامرة على محور المقاومة»، وها هي باتت تنافسه في التعصب وفي السعي إلى «إشعال المنطقة» وفي تأجيج الاحتقان الطائفي والمذهبي حتى لو أدى ذلك إلى تحطيم سمعة «حزب الله» وجعله مجرد ميليشيا مسلحة تلوثت بندقيتها بدماء الشعبين السوري واللبناني.
حتى أسابيع قليلة مضت كان هناك أيضاً من يعتقد أن إشارة التغيير ستأتي من روسيا، فهي دولة كبرى وعليها من المسؤوليات ما يلزمها بوقف إراقة الدماء، ولديها من المعطيات ما يوضح أن كل «التدخلات» الخارجية التي يحكى -وهي تحكي بدورها- عنها لا تعدو الاستغلال العشوائي للأزمة، إذ لم يتعرض النظام في أي مرحلة لتهديد حقيقي مباشر لإسقاطه، ثم إن الاتصالات التي لم تنقطع مع الأمريكيين أفهمت الروس أن الغرب لن يتدخل وأن الهدف الثابت لإدارة باراك أوباما كان ولا يزال إيجاد حل سياسي.
لكن روسيا لم تلعب اللعبة، لأن في إطالة الصراع مصلحة مباشرة لها طالما أن النظام صامد، وفيها أيضاً إرباك يشعر الغرب بأنه في صدد خسارة مكانة ومواقع له في المنطقة. وها هي روسيا تسعى إلى مصالحها كدولة كبرى، لكنها تهبط بسياستها إلى مستوى الدول المارقة ولا تتردد في استنساخ العقلية السياسية للنظامين السوري والإيراني لتدير بها الأزمة على طريقتها.
وهكذا فإن هذا الرمق من الاتزان والتعقّل والواقعية الذي توقعه الباحثون عن «حل سياسي» لم يتوافر في أي مرحلة، لا عند النظام ولا عند أي من حليفيه الأساسيين، بل اتخذ التطرف عند كل منهم منحىً تصاعدياً. واذا كان هناك انطباع خرج به الرؤساء السبعة من أداء زميلهم الروسي، في قمة الدول الثماني، فلا بدّ من أنهم تأكدوا أن «جنيف 2» و»الحل السياسي» هما عنده مجرد وسيلة للاستمرار في الحرب. فهو «شريكـ»هم ضد «الإرهابيين»، لكنه يستخدمهم ضدهم. وهو شريكهم في تصور نهاية سياسية للأزمة لكنه شريك النظامين السوري والإيراني في إبعاد هذه النهاية أو تطويعها عسكرياً لمصلحته مع حليفيه. وهو «شريك»هم في الحديث عن استقرار المنطقة عموماً، لكنه شريك حليفيه في جعل المنطقة مصيدة للغربيين ومشروع هزيمة جديدة لحلفائهم العرب في شكل خاص. وهو «شريك»هم في رفض انزلاق الصراعات في سورية وحولها إلى الدرك الطائفي - المذهبي، لكنه أيضاً شريك وحليف من يزكي نار الحروب الدينية. وهو شريكهم في ضمان أمن إسرائيل ومصالحها، ويُفترض أن إسرائيل شريكتهم أيضاً في ما أعلنوا أنهم يريدونه لسورية والسوريين، لكن أهداف روسيا وإسرائيل تلتقي أكثر حالياً مع أهداف النظامين السوري والإيراني.
بعد قرار تسليح المعارضة، من المؤكد أن روسيا وإيران تتهيآن لمستوى تسليحي أعلى للنظام منعاً لأي توازن ميداني. إذ أصبحت لعبة الحرب بالواسطة مكشوفة على نحو مروع، لأن المساعي السياسية بما فيها الاتصالات الأمريكية - الروسية باتت أكثر إيحاءً بأنها تتم على خلفية خلاف ولا تنطلق من اتفاق صلب كما أشاع الطرفان في بداية مايو الماضي.
مرة أخرى أين الخطأ، بالأحرى أين الخلل؟ وهل يتعلق فقط بالشأن السوري أم بأهداف أخرى تحاول روسيا تحقيقها من خلال سورية؟ يُفترض أن الأمريكيين فهموا أن «شريكهم» الروسي ليس معنياً بـ «جنيف 2» إلا إذا كان سيكرس بقاء النظام بشكل أو بآخر... وفيما حذّر بوتين من «الفراغ» الذي يمكن أن يتركه تنحي بشار الأسد، تولى وزير خارجية النظام وليد المعلم إعلان مفهوم الأسد للحل: «نحن ذاهبون إلى جنيف من أجل شراكة حقيقية وحكومة وحدة وطنية واسعة تضم جميع أطياف الشعب السوري»، أي أن المطروح توسيع الحكومة الحالية التابعة للأسد وأجهزته الأمنية، وهو ما كان عرضه قبل معركة القصير وأيام كان هناك «توازن» على الأرض.
أما الإصرار عليه الآن فيبدو إحباطاً لمساعي جنيف واستعداداً للذهاب إلى جولة دموية ضارية. متى تقرر مجموعة «أصدقاء سورية» أن التوازن عاد، إذا أفشل أي هجوم على حلب وحمص، أم إذا سيطر «الجيش الحر» على مواقع جديدة وأوقف عمليات النظام في ريف دمشق واستعاد محاصرة العاصمة؟ وعندئذ ماذا سيحصل، هل سيكون الأسد أكثر استعداداً للتنحي؟ هذا يتطلب أكثر من مجرد تجهيز المعارضة لتصمد في مواقعها في انتظار «جنيف 2».
أصبح واضحاً أن النظام وروسيا وإيران راهنت وتراهن على أن «الطرف الآخر» بجناحيه المحلي والدولي عاجز عن تغيير المعادلة وعن ترشيد أدائه وتوكيد تماسكه، وأنه لم تكن ولن تكون له رؤية لتنفيذ أهدافه. فالنظام وحليفاه لديهم خطة للقتل والتدمير إلى ما لا نهاية من أجل «الانتصار» على الشعب السوري، وقد توقفوا منذ زمن عن عد الضحايا، وأعطوا مثالاً غير مسبوق لما يمكن أن تكون عليه دولة منبثقة من الإرهاب.
ولا شك في أن المسؤولية الحاسمة باتت ملقاة على عاتق المعارضة أكثر من أي يوم مضى، وعليها أن تستكمل جاهزيتها للتفاوض إذا آن أوانه أو لاستثمار أي تحسن لوضع عسكرييها في الداخل. وقد عوّل الداعمون طويلاً عليها لتصنع كياناً يمكن الاعتماد عليه، صحيح أن تدخلاتهم لم تساعدها دائماً لكن الصحيح أيضاً أنها لم تتمكّن من التغلب على انقساماتها وطموحات أفرادها وصراعاتهم اللانهائية، حتى كأنهم وطّنوا أنفسهم على إبقاء شعبهم مشرداً ومشتتاً كما لو أن تضحياته الكبيرة لم تكف هذه المعارضة لتكون صوتاً واحداً. فهذا الرفض التلقائي لكل شخص قادر على إشاعة شيء من الثقة والصدقية، والتهافت على تحطيمه، لا يحول دون بناء كيان فاعل للمعارضة فحـسـب، بل يـشي بأنها لن تـتمـكن من بـناء أي بـديل للنـظـام وهـذا في حد ذاته يـخدم النظام الحالي من حيـث يـراد تغييره.
- عن «الحياة» اللندنية