في حرب الخليج، بداية التسعينات تلك الفترة الممتدة قبل تحرير الكويت، كان المغفور له الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، طيب الله ثراه، مسافراً لفترة، وكانت إحدى نساء ذلك الزمن الجميل قد ذكرت لوالدتها أنها قد استلمت راتبها الشهري فلم تصدقها، وتساءلت عمن منحها راتبها الشهري فيما أمير البلاد كان مسافراً، مستندة على فكرة أنه من يسهر الليالي ليتابع أمور شعبه ويتابع شأن كل موظف ويقسم الرواتب ويوزعها.. مؤكدة: «الشيخ عيسى هو من يوزع المشاهرة، أي الراتب، فشلون خذتي راتبج وهو محد؟».
في زمن «راحوا الطيبين» نشأت صاحبة هذا الموقف، جدتي «سبيكة» رحمها الله -من مواليد فترة الثلاثينات- يتيمة الوالدين لا معيل لها هي وأختها المرحومة مهرة المحميد، وهي قابلة عملت في مجال التوليد خلال فترة الثلاثينات وحتى أواخر الستينات، واشتهرت في منطقتها بالمحرق بجهودها الوطنية وأعمالها الإنسانية، عملوا بكد واجتهاد ولم يخرجوا ويعارضوا ويتظاهروا في فترة لم تكن فيها المؤسسة الخيرية الملكية لرعاية الأيتام والأرامل أو وزارة التنمية الاجتماعية.
كانت ديكتاتورية بالوطنية والولاء لا مجال حتى لمناقشتها، لم يكن ليجرؤ أحد على معارضتها أو مجرد التعليق والنقاش معها في أي شيء يخص ويتعلق بأمير البحرين أو العائلة الحاكمة، رغم حياتهم البسيطة جداً هي وأختها، التي تعتبر رائدة في مجال الولادة؛ كانت تمضي سيراً على الأقدام من بيت خالي إلى بيت خالي الثاني الذي لا يبعد كثيراً في فريج بن هندي إذا ما حان وقت نشرة الأخبار المسائية، وعندما يقوم الأهل بفتح التلفاز على محطة تلفزيون البحرين تعلق قائلة: «أمير البلاد يطلع بالتلفزيون وما نشوفه.. أخاف يزعل علينا!». وفي كل مرة يطل الأمير الراحل على التلفزيون ملوحاً بيده قبل أن يركب طيارته مسافراً كانت تقول، وكأن هناك من يسمعها، «تحملوا فيه».
كانت كلماتها، ومعها نساء ذلك الزمن الأصيل، في حال حصولهن على أي شيء جديد «أنعم الله على الشيخ عيسى!»، وكن يرددن دائماً عبارة «الله يسلم الشيخ عيسى» بدلاً من «الله يسلم عيالنا أو أزواجنا»، وعندما يقوم أحد بمناقشتهن بأن ما حصلن عليه جاء من جهد ومشقة الابن ومن راتبه يأتي الرد دائماً «مشايخنا هم من يمنحون الرواتب وهم أولياء أمورنا»، عندما قام العمال بإدخال الكهرباء للبحرين وبتركيبها بالمنزل ظلت عبارة «الله يسلم الشيخ عيسى» يومها لا تتوقف!
هكذا كان الوطن في عيون أجدادنا يسكن قلوبهم، الوطن الذي حرر واستقل بعدها تاريخياً بدماء العائلة الحاكمة، حين قالت إحداهن «أبونا أحمد بن محمد آل خليفة حاكم البحرين كانت أكوام القطن الكبيرة تحيط بجسمه ويده التي ثقبت بالسيوف وهو يحارب بالزبارة»، كان الوطن عندهم يأتي دائما ًقبل كل شيء حتى العائلة والأبناء! هكذا كانوا الأفاضل عندما يكرمون؛ يحفظون جميل أبسط الأمور التي تتحقق لهم، حيث مقامها كبير في نفوسهم وهكذا كانوا بالتاريخ يعترفون به ويقرون!!
في زمن راحوا الطيبين ومع عدم وجود مواصلات ووسائل إعلام وقنوات تشريعية، ومع صعوبة الوصول إلى المسؤولين؛ صادف أن سؤلت إحداهن لماذا لا تتجه إلى ديوان الأمير وتطالب بنفقة كونها بلا معيل، فقالت: «من الصعب الوصول لهم لكن يكفي أنني أعيش تحت ظلهم!».
في زمن راحوا الطيبين كانت الدروس الوطنية تصدر للأجيال بالمواقف لا الكلمات، «أمي حصة» كما كنا نناديها رحمها الله من فريج البنعلي، كانت امرأة بسيطة للغاية أبت ذات ليلة أن تنام بمنزلها في مكان قام فيه أحدهم بالتكلم بشكل غير لطيف على سمو رئيس الوزراء، حيث حلفت بالله ألا تنام ليلتها في نفس الفريج الذي تكلموا فيه عنه!، في كل ركن من منزلها القديم الآيل للسقوط الذي تتسرب إليه مياه الأمطار توجد صوره، رغم عدم وجود أبناء لها ولم تنجب ولا زوج لها أو معيل، كانت تظل واقفة في الشارع على قدمها رغم تقدمها بالعمر تنتظره عندما يتوارد إليها خبر أنه في زيارة للمحرق، رحلت رحمها الله دون أن تلتقيه وتراه، وظل منزلها الأخير الذي كانت تسكنه بالإيجار دون أن تتملكه ممتلئاً بصوره شاهداً على حبها له! رحلت دون أن تتملك منزلاً طيلة حياتها لكنها كانت تمتلك الوطن بأكمله في داخلها، وكانت تجسد منزلاً من الحب والدروس الوطنية، ويبدو أن الله أحبها فاختارها قبل أن تشهد محاولات طمس هوية هذا الفريج العريق، وقد آن أن تسقط الأقنعة!
أقيمت عرضة «رقصة رجالية من التراث» ذات يوم، فما كان من النساء إلا أن قلن وهن يحضرنها «ما قصر الشيخ عيسى مسوي لنا عرضه حق نستانس!»، فيما قامت إحدى نساء فريج بن هندي بذبح عجل خلف مدرسة عمر بن الخطاب فور توارد خبر مرور الأمير الراحل قادماً من المطار، رغم أنها لم تره حتى! كن يخرجن من منازلهن مبكراً عندما يتوارد خبر قدومه إلى المنطقة، ويبقين واقفات على أقدامهن بالساعات ينتظرنه وعبارة «ما يبرد قلبنا إلا لما نشوف شيوخنا» حاضرة دائماً في تلك المحطات التاريخية الحميمة التي تعكس عمق العلاقة بين الشعب -في تلك الفترة- والعائلة الحاكمة.
في زمن لم تكن فيه سبل الترفيه وأساليب الحياة السهلة متاحة، كما الآن، كانت مشقة الحصول على الماء والكهرباء تتطلب مجهوداً بدنياً أكثر من المادي، والحياة لم تكن يسيرة أبداً، هكذا كان شعب البحرين الأصيل، وهذا هو تاريخنا الذي يحاول البعض اليوم تغيير ملامحه وتزويره بادعاء أن الثورة تأتي من الشعب وضد النظام! لم يكن الحب والولاء يومها يسمى «تطبيلاً» بل «تقبيلاً» لتاريخ البحرين الحافل بالتضحيات والعطاء.
- إحساس أخير..
رحم الله أبناء ذلك الزمن الجميل الذين قاموا ببذر دروس الوطنية وتاريخ البحرين والعائلة الحاكمة في الأجيال المتلاحقة وأسكنهم فسيح جناته وغفر لهم.
في زمن «راحوا الطيبين» نشأت صاحبة هذا الموقف، جدتي «سبيكة» رحمها الله -من مواليد فترة الثلاثينات- يتيمة الوالدين لا معيل لها هي وأختها المرحومة مهرة المحميد، وهي قابلة عملت في مجال التوليد خلال فترة الثلاثينات وحتى أواخر الستينات، واشتهرت في منطقتها بالمحرق بجهودها الوطنية وأعمالها الإنسانية، عملوا بكد واجتهاد ولم يخرجوا ويعارضوا ويتظاهروا في فترة لم تكن فيها المؤسسة الخيرية الملكية لرعاية الأيتام والأرامل أو وزارة التنمية الاجتماعية.
كانت ديكتاتورية بالوطنية والولاء لا مجال حتى لمناقشتها، لم يكن ليجرؤ أحد على معارضتها أو مجرد التعليق والنقاش معها في أي شيء يخص ويتعلق بأمير البحرين أو العائلة الحاكمة، رغم حياتهم البسيطة جداً هي وأختها، التي تعتبر رائدة في مجال الولادة؛ كانت تمضي سيراً على الأقدام من بيت خالي إلى بيت خالي الثاني الذي لا يبعد كثيراً في فريج بن هندي إذا ما حان وقت نشرة الأخبار المسائية، وعندما يقوم الأهل بفتح التلفاز على محطة تلفزيون البحرين تعلق قائلة: «أمير البلاد يطلع بالتلفزيون وما نشوفه.. أخاف يزعل علينا!». وفي كل مرة يطل الأمير الراحل على التلفزيون ملوحاً بيده قبل أن يركب طيارته مسافراً كانت تقول، وكأن هناك من يسمعها، «تحملوا فيه».
كانت كلماتها، ومعها نساء ذلك الزمن الأصيل، في حال حصولهن على أي شيء جديد «أنعم الله على الشيخ عيسى!»، وكن يرددن دائماً عبارة «الله يسلم الشيخ عيسى» بدلاً من «الله يسلم عيالنا أو أزواجنا»، وعندما يقوم أحد بمناقشتهن بأن ما حصلن عليه جاء من جهد ومشقة الابن ومن راتبه يأتي الرد دائماً «مشايخنا هم من يمنحون الرواتب وهم أولياء أمورنا»، عندما قام العمال بإدخال الكهرباء للبحرين وبتركيبها بالمنزل ظلت عبارة «الله يسلم الشيخ عيسى» يومها لا تتوقف!
هكذا كان الوطن في عيون أجدادنا يسكن قلوبهم، الوطن الذي حرر واستقل بعدها تاريخياً بدماء العائلة الحاكمة، حين قالت إحداهن «أبونا أحمد بن محمد آل خليفة حاكم البحرين كانت أكوام القطن الكبيرة تحيط بجسمه ويده التي ثقبت بالسيوف وهو يحارب بالزبارة»، كان الوطن عندهم يأتي دائما ًقبل كل شيء حتى العائلة والأبناء! هكذا كانوا الأفاضل عندما يكرمون؛ يحفظون جميل أبسط الأمور التي تتحقق لهم، حيث مقامها كبير في نفوسهم وهكذا كانوا بالتاريخ يعترفون به ويقرون!!
في زمن راحوا الطيبين ومع عدم وجود مواصلات ووسائل إعلام وقنوات تشريعية، ومع صعوبة الوصول إلى المسؤولين؛ صادف أن سؤلت إحداهن لماذا لا تتجه إلى ديوان الأمير وتطالب بنفقة كونها بلا معيل، فقالت: «من الصعب الوصول لهم لكن يكفي أنني أعيش تحت ظلهم!».
في زمن راحوا الطيبين كانت الدروس الوطنية تصدر للأجيال بالمواقف لا الكلمات، «أمي حصة» كما كنا نناديها رحمها الله من فريج البنعلي، كانت امرأة بسيطة للغاية أبت ذات ليلة أن تنام بمنزلها في مكان قام فيه أحدهم بالتكلم بشكل غير لطيف على سمو رئيس الوزراء، حيث حلفت بالله ألا تنام ليلتها في نفس الفريج الذي تكلموا فيه عنه!، في كل ركن من منزلها القديم الآيل للسقوط الذي تتسرب إليه مياه الأمطار توجد صوره، رغم عدم وجود أبناء لها ولم تنجب ولا زوج لها أو معيل، كانت تظل واقفة في الشارع على قدمها رغم تقدمها بالعمر تنتظره عندما يتوارد إليها خبر أنه في زيارة للمحرق، رحلت رحمها الله دون أن تلتقيه وتراه، وظل منزلها الأخير الذي كانت تسكنه بالإيجار دون أن تتملكه ممتلئاً بصوره شاهداً على حبها له! رحلت دون أن تتملك منزلاً طيلة حياتها لكنها كانت تمتلك الوطن بأكمله في داخلها، وكانت تجسد منزلاً من الحب والدروس الوطنية، ويبدو أن الله أحبها فاختارها قبل أن تشهد محاولات طمس هوية هذا الفريج العريق، وقد آن أن تسقط الأقنعة!
أقيمت عرضة «رقصة رجالية من التراث» ذات يوم، فما كان من النساء إلا أن قلن وهن يحضرنها «ما قصر الشيخ عيسى مسوي لنا عرضه حق نستانس!»، فيما قامت إحدى نساء فريج بن هندي بذبح عجل خلف مدرسة عمر بن الخطاب فور توارد خبر مرور الأمير الراحل قادماً من المطار، رغم أنها لم تره حتى! كن يخرجن من منازلهن مبكراً عندما يتوارد خبر قدومه إلى المنطقة، ويبقين واقفات على أقدامهن بالساعات ينتظرنه وعبارة «ما يبرد قلبنا إلا لما نشوف شيوخنا» حاضرة دائماً في تلك المحطات التاريخية الحميمة التي تعكس عمق العلاقة بين الشعب -في تلك الفترة- والعائلة الحاكمة.
في زمن لم تكن فيه سبل الترفيه وأساليب الحياة السهلة متاحة، كما الآن، كانت مشقة الحصول على الماء والكهرباء تتطلب مجهوداً بدنياً أكثر من المادي، والحياة لم تكن يسيرة أبداً، هكذا كان شعب البحرين الأصيل، وهذا هو تاريخنا الذي يحاول البعض اليوم تغيير ملامحه وتزويره بادعاء أن الثورة تأتي من الشعب وضد النظام! لم يكن الحب والولاء يومها يسمى «تطبيلاً» بل «تقبيلاً» لتاريخ البحرين الحافل بالتضحيات والعطاء.
- إحساس أخير..
رحم الله أبناء ذلك الزمن الجميل الذين قاموا ببذر دروس الوطنية وتاريخ البحرين والعائلة الحاكمة في الأجيال المتلاحقة وأسكنهم فسيح جناته وغفر لهم.