في بحيرة جورج التابعة لألباني، إحدى مدن نيويورك، والتي تبعد عن منهاتن مسافة أربع ساعات بالسيارة ويعانق فيها السائح الطبيعة التي تذهله، يتوفر سوق يعتمد أصحاب المحلات فيه على السياح الذين لا يخلو منهم المكان حتى في أصعب الأجواء، فالمكان فردوس دنيوي يأتيه السواح من كل حدب وصوب، لكن أحداً من السائحين إلى هذا المكان لا يتعرض إلى أي نوع من أنواع النصب التي يمكن أن يتعرض لها في بعض البلاد العربية الإسلامية التي يقصدها السائحون.
في بحيرة جورج لا يسأل الباعة السائح أن يشتري منهم، فبضاعتهم في مكانها وبإمكانه أن يراها ويطلبها إن أراد ذلك. ليس هذا فقط؛ ففي هذا المكان -مثلما هو الحال في كل مكان في الولايات المتحدة- لا تباع البضاعة بأعلى من ثمنها المحدد، فكل ما هو معروض للبيع عليه سعره الذي لا يمكن للبائع أن يزيد عليه أو ينقص.
في هذا المكان -وفي كل مكان في الولايات المتحدة- لا يعنيهم أبداً من تكون ولا ما تشغل من وظيفة ولا تهمهم جنسيتك ولا دينك ولا مذهبك ولا فكرك ولا قناعاتك، ولا يهمهم ماذا تلبس أو ماذا تأكل، ما يهمهم في الدرجة الأولى هو أن تخرج بانطباع جميل عن المكان وأهله، وما يهمهم في الدرجة قبل الأولى أن تلتزم بالقوانين وتحترم النظام.
في بحيرة جورج، التي قضيت فيها يومين مؤخراً، لفتني أمر جميل؛ أحد المحلات التجارية أوقف دباً يبدو من بعيد أنه حقيقي أمام واجهته ليغري السائحين للتصوير معه، فالدب حقيقي حجماً ولباساً وإن كان محشواً بالقطن أو بمواد أخرى، لكنه وضع بين قدمي الدب صندوقاً صغيراً كتب عليه (من فضلك لو صورت مع الدب ضع نصف دولار هنا) ما يعني أنه بإمكان من يرغب في التصوير مع الدب تحقيق رغبته وعدم وضع الأجرة في الصندوق، فلا أحد في المكان يراقب أو يعطي الإذن بالتصوير، لكن أحداً لا يفعل ذلك حتى في الليل عندما يغلق المحل ويخلو الشارع من السائحين. إنها الأمانة التي للأسف الشديد نفتقدها في كثير من بلداننا العربية، إن لم يكن فيها كلها، والأمثلة في هذا الخصوص كثيرة وتكشف عن مفارقة ملخصها أن بلادنا إسلامية وبلادهم غير إسلامية.. لكنهم يطبقون الإسلام ونحن نكتفي منه بالاسم فقط! (لاحظ معاناة السائحين الذين يختارون بعض البلاد العربية مقصداً.. وقارن).
ضمن البرامج السياحية الترفيهية الكثيرة استمتعت بجولة في البحيرة بسفينة سياحية تستوعب مئات السياح مدتها ساعة، ورغم كثرة المشاركين في الرحلة وتعدد جنسياتهم فإنني لم أجد ولا ورقة صغيرة على أرض السفينة في نهاية الرحلة، فالكل هنا يلتزم بالنظافة وبالنظام مثلما أن الكل يخاطب الكل بأدب جم ويبتسم في وجهه.
لكن النظافة ليست في السفينة السياحية فقط، فهي في كل مكان. خلال اليومين اللذين قضيتهما في البحيرة لم يتوقف هطول المطر، بعد ذلك بساعات عاد كل شيء إلى حاله.. نظيفاً في كل مكان.
إنه الإنسان الذي بإمكانه أن يكون نظيفاً ومنظماً وبإمكانه أن يقتل النظافة ويغتال النظام. ما آلمني هو أنني لا أجد ما وجدت هناك في كثير من البلاد العربية، فلا يزال فيها من لا يعطي أي اعتبار للنظافة ولا للنظام.. ولا للقانون.
مقارنة بسيطة بين ما صارت فيه كثير من دول العالم وما نحن فيه اليوم تكفي للتساؤل على الأقل عن الأسباب التي جعلتنا نتأخر حتى في مثل هذه الأمور.