هل أقدم النظام السوري أخيراً على «الانتحار السياسي» الذي أشار إليه وزير الخارجية الروسي في معرض استبعاده أن يلجأ بشار الأسد إلى السلاح الكيماوي؟ في النهاية فعل الأسد ما اعتقد أن المجتمع الدولي مستعد لقبوله، أو ما يمكن أن يمرّره في ظل المعادلة الأمريكية-الروسية الراهنة، فهل ارتكب الخطأ المنتظر؟ هو لا يعتقد ذلك، ودليله أنه ترك كل هذا الوقت يقتل بلا خشية من أي ردع ولا محاسبة، ويطلق صواريخ «سكود» على أحياء سكنية في أكثر من مدينة، بل تعمد القتل بالغازات السامة على نطاق محدود في نحو خمسين حالة عملت طواقم طبية على توثيقها وإيصالها إلى مراجع دولية. أما ما شهدته أحياء الغوطتين، فكان للمرة الأولى قصفاً بصواريخ مجهزة برؤوس كيماوية وعلى نطاق واسع.
لذلك تعتبر واشنطن أنه تعمد تجاوز «الخط الأحمر» فعلاً، ليس فقط الخط الذي حدّده باراك أوباما قبل عام ثم بدا أنه ندم عليه إلى حد الإيعاز بتجاهله، بل أيضاً الخط الأحمر الدولي الذي يعمل مجلس الأمن تحته. ومع أن مداولات المجلس ظلت عقيمة، إلا أن التعامي والتخاذل شكلا مخاطرة جسيمة مزدوجة؛ إتاحة مجازر كيماوية متتالية، ومنح الأسد صلاحية «شرعنة» أو تشريع استخدام السلاح المحظور ضد شعبه.
إذاً، فهذا انتهاك لا يمكن السكوت عنه، وفي الأيام الأخيرة استعيدت كل السيناريوهات التي لمح إليها سابقاً، ومنها سيناريو كوسوفو عام 1999 بغية إضعاف الإمكانات اللوجستية للنظام وضرب قواه الجوية وعزل أسلحته الاستراتيجية. كان هناك حديث عن عمل عسكري محتمل، إلا أن المجزرة الكيماوية أدّت إلى مناخ ضربة وشيكة. الجديد أن النظام نفسه أدرك أنه إزاء استحقاق لا يخلو من الجدية، فقبل المجزرة كانت الضربة احتمالاً متداولاً وبعدها لم تعد مجرد احتمال. وقد وصفه جون كيري بأنه «نظام لم يعد يخشى أن يظهر للعالم أي شيء من وحشيته».
لذا وافقت دمشق بعد مماطلة على توسيع مهمة المحققين الدوليين آملة في كسب وقت لتخفيف الضغوط وإظهار مرونة قد تساعد الحليف الروسي في نقض ما يتوصل إليه المحققون من وقائع وأحكام. لكن واشنطن حسمت الجدل، بلسان كيري وليس أوباما، معلنة أن سلاحاً كيماوياً قد استخدم وأن النظام هو المسؤول.
لم يعد مهماً أن تنفرد موسكو وطهران في تصديق رواية دمشق بأن المعارضة هي التي قصفت الغوطتين بصواريخ مجهزة برؤوس نووية.
وإذ أقرّ الرئيس الإيراني الجديد بأن هناك ضحايا قضوا بـ»مواد كيماوية» ولم يحدد الجهة المجرمة الجانية فهو على الأقل لم يبرّئ النظام. «هذه صيغة ملتبسة للإيحاء بأن حسن روحاني وحده يتمتع بهامش تمايز عن الموقف الإيراني المعروف ليواصل تلميع صورته المقبولة موقتاً في الغرب».
هل تبلور «تحالف» للقيام بعمل عسكري دولي من دون موافقة مجلس الأمن؟ الواضح أن «التحالف» موجود، وأن هناك تحضيراً متقدماً جداً. الخيارات صارت أكثر تحديداً وواقعية، والانتهاك الكيماوي يكفي كدافع ومبرر، بل يحتم إنزال العقاب بالنظام. مع ذلك، وعلى رغم أن المعلومات الاستخبارية بدت هذه المرة قاطعة، فإن الأطراف المعنية مضطرة لانتظار تقرير المحققين أمام مجلس الأمن. ثم إن التداعيات الإقليمية للضربة المزمعة لاتزال حالياً قيد التقويم. وعلى رغم أن عواصم عدة لمست لهجة تصميم في ما أعلنه كيري، إلا أنها واصلت التساؤل عن موقف أوباما نفسه، فمع ازدياد اقتناعه بضرورة توجيه ضربة، إلا أنه لا يريد عملاً عسكرياً يقوّض نهائياً إمكانات الحل السياسي ومقوّماته.
لكن، لماذا اقترف الأسد هذه الجريمة مع علمه بأن الظروف دقيقة جداً وقد لا تخدمه؟ هناك أسباب عدة أمكن رصدها، وأولها أنه تأكد أخيراً أن الوقت لم يعد لمصلحته وأن عليه التخلي نهائياً عن حلم حسم الصراع على النحو الذي تصوّره. فالحسابات التي بدت منذ يونيو كأنها تسير وفقاً لما خططه سرعان ما اختلت. وبالنسبة إليه، كان تأجيل «جنيف 2» وإنعاش المعارضة علامتين سلبيتين. ثم إن قراءته لهواجس الولايات المتحدة والدول الغربية ومخاوفها من تصاعد خطر الإرهاب «القاعدي» شجعته على توقع تطوير التوافق الامريكي-الروسي على مكافحة الإرهاب ليصبح توافقاً سياسياً يعاود الاعتماد عليه كطرف وحيد قادر على مواجهة ذلك الخطر.
وعلى رغم أن الفتور بين واشنطن وموسكو لم يبلغ بعد حدّ الخصام والمواجهة، إلا أنه بدّد رهانات الأسد التي لم تكن صلبة على أي حال.
من جهة أخرى، هناك من يرى في التصعيد الكيماوي ملامح من حقبة الحرب الباردة قد تكون تقاطعت فيه رغبتا روسيا والنظام السوري في إطلاق رسالة تحدٍّ إلى الولايات المتحدة، بغية استكشاف خياراتها وبالتالي إظهار عجزها لدفعها إلى التنازل ترجيحاً وتسريعاً للحل السياسي.
فموسكو قدّرت أن الأمريكيين لن يذهبوا إلى أي خيار عسكري ضد سوريا خارج إطار مجلس الأمن، لا لأنهم يتوقعون ردّاً عسكرياً روسياً، بل لأنهم يخشون رداً بالخروج من منظومة العقوبات المفروضة على إيران التي يعتبرها أوباما أفضل ما حققته دبلوماسيته ولا يريد المجازفة بها الآن.
وكانت واشنطن حددت، بالتفاهم مع موسكو، تنازلات معينة لإنجاح «جنيف 2»، ولم يجد النظام أنها تناسبه كونها لا تجدد منحه الضمانات التي تمتع بها سابقاً. لذا عبرت مصادره إعلامياً عن ضيقه خصوصاً من التلكؤ الأمريكي في التحضير لـ»المؤتمر الدولي للسلام»، لكن الأهم والأخطر أن اندفاعات قوات النظام -تحديداً في الغوطتين- بدأت تواجه بأسلحة نوعية تعطل الدبابات وتسقط الطائرات، وبالتالي اختار الردّ كعادته بسلاح يفوق ما تحصل عليه المعارضة.
لاشك في أن الرسالة الأكثر وضوحاً في التحدي الذي افتعله النظام للمجتمع الدولي بالتصعيد الكيماوي خلال وجود محققي الأمم المتحدة في دمشق، هي أنه متمسك بتفوقه العسكري في الداخل ولن يوافق إطلاقاً على تعديل ميزان القوى حتى لو اضطر لإخراج سلاحه المحظور من مخابئه.
إلى ذلك، أراد النظام أيضاً تأكيد تمسكه بالسيطرة على دمشق، مقر حكمه وغطاء «شرعيته» ومحور مساوماته المقبلة، فإذا خسرها لينكفئ إلى الساحل يصبح مجرد طرف محارب. والواقع أن كل الإشارات الخارجية التي تلقاها النظام من تأجيل «الحل السياسي» وعدم الشروع به في التوقيت الذي تمناه لم تكن في الاتجاه الذي يطمئنه بالنسبة إلى وضعه في دمشق.
يضاف إلى ذلك استهداف موكب الأسد وشعوره باقتراب الخطر منه شخصياً، وهو ما قالت مصادر المعارضة إنه شكل سبباً مباشراً للانتقام الكيماوي.
كان ثمة انتقام آخر للنظام، إذ هاله سقوط مناطق في ريف اللاذقية في أيدي فصائل محسوبة على المعارضة، فأُجبر على سحب قسم من قواته الخاصة من محيط دمشق وجبهات أخرى ليستعيدها.
وبعدما توصل إلى إنهاء الاختراق هناك لم يكن متوقعاً أن يمرر هذه التجربة، التي هزّت كيان طائفته، من دون أن يثأر بضربة قاسية. سبق لأوساط النظام أن حذرت بأن الهدف الرئيس للسلاح الكيماوي ردع أي هجمات على منطقة الساحل وتحصين حمايتها، بالأخص إذا تمكنت من نيل اعتراف دولي بخصوصيتها في أي تسوية للنزاع. غير أن أعوان النظام يعبرون منذ فترة عن غضب واستياء لأن الغرب لايزال يرفض البحث والتداول في التقسيم، ولأن النظام و»حلفاءه» لم يحسنوا إدارة هذه المسألة. لكن، يبقى أن الانتقام ما كان ليشكل رسالة ردعية لو لم يحصل بـ»الكيماوي»، بل لو لم يحصل في ضاحية دمشق.
عن «الحياة» اللندنية
{{ article.visit_count }}
لذلك تعتبر واشنطن أنه تعمد تجاوز «الخط الأحمر» فعلاً، ليس فقط الخط الذي حدّده باراك أوباما قبل عام ثم بدا أنه ندم عليه إلى حد الإيعاز بتجاهله، بل أيضاً الخط الأحمر الدولي الذي يعمل مجلس الأمن تحته. ومع أن مداولات المجلس ظلت عقيمة، إلا أن التعامي والتخاذل شكلا مخاطرة جسيمة مزدوجة؛ إتاحة مجازر كيماوية متتالية، ومنح الأسد صلاحية «شرعنة» أو تشريع استخدام السلاح المحظور ضد شعبه.
إذاً، فهذا انتهاك لا يمكن السكوت عنه، وفي الأيام الأخيرة استعيدت كل السيناريوهات التي لمح إليها سابقاً، ومنها سيناريو كوسوفو عام 1999 بغية إضعاف الإمكانات اللوجستية للنظام وضرب قواه الجوية وعزل أسلحته الاستراتيجية. كان هناك حديث عن عمل عسكري محتمل، إلا أن المجزرة الكيماوية أدّت إلى مناخ ضربة وشيكة. الجديد أن النظام نفسه أدرك أنه إزاء استحقاق لا يخلو من الجدية، فقبل المجزرة كانت الضربة احتمالاً متداولاً وبعدها لم تعد مجرد احتمال. وقد وصفه جون كيري بأنه «نظام لم يعد يخشى أن يظهر للعالم أي شيء من وحشيته».
لذا وافقت دمشق بعد مماطلة على توسيع مهمة المحققين الدوليين آملة في كسب وقت لتخفيف الضغوط وإظهار مرونة قد تساعد الحليف الروسي في نقض ما يتوصل إليه المحققون من وقائع وأحكام. لكن واشنطن حسمت الجدل، بلسان كيري وليس أوباما، معلنة أن سلاحاً كيماوياً قد استخدم وأن النظام هو المسؤول.
لم يعد مهماً أن تنفرد موسكو وطهران في تصديق رواية دمشق بأن المعارضة هي التي قصفت الغوطتين بصواريخ مجهزة برؤوس نووية.
وإذ أقرّ الرئيس الإيراني الجديد بأن هناك ضحايا قضوا بـ»مواد كيماوية» ولم يحدد الجهة المجرمة الجانية فهو على الأقل لم يبرّئ النظام. «هذه صيغة ملتبسة للإيحاء بأن حسن روحاني وحده يتمتع بهامش تمايز عن الموقف الإيراني المعروف ليواصل تلميع صورته المقبولة موقتاً في الغرب».
هل تبلور «تحالف» للقيام بعمل عسكري دولي من دون موافقة مجلس الأمن؟ الواضح أن «التحالف» موجود، وأن هناك تحضيراً متقدماً جداً. الخيارات صارت أكثر تحديداً وواقعية، والانتهاك الكيماوي يكفي كدافع ومبرر، بل يحتم إنزال العقاب بالنظام. مع ذلك، وعلى رغم أن المعلومات الاستخبارية بدت هذه المرة قاطعة، فإن الأطراف المعنية مضطرة لانتظار تقرير المحققين أمام مجلس الأمن. ثم إن التداعيات الإقليمية للضربة المزمعة لاتزال حالياً قيد التقويم. وعلى رغم أن عواصم عدة لمست لهجة تصميم في ما أعلنه كيري، إلا أنها واصلت التساؤل عن موقف أوباما نفسه، فمع ازدياد اقتناعه بضرورة توجيه ضربة، إلا أنه لا يريد عملاً عسكرياً يقوّض نهائياً إمكانات الحل السياسي ومقوّماته.
لكن، لماذا اقترف الأسد هذه الجريمة مع علمه بأن الظروف دقيقة جداً وقد لا تخدمه؟ هناك أسباب عدة أمكن رصدها، وأولها أنه تأكد أخيراً أن الوقت لم يعد لمصلحته وأن عليه التخلي نهائياً عن حلم حسم الصراع على النحو الذي تصوّره. فالحسابات التي بدت منذ يونيو كأنها تسير وفقاً لما خططه سرعان ما اختلت. وبالنسبة إليه، كان تأجيل «جنيف 2» وإنعاش المعارضة علامتين سلبيتين. ثم إن قراءته لهواجس الولايات المتحدة والدول الغربية ومخاوفها من تصاعد خطر الإرهاب «القاعدي» شجعته على توقع تطوير التوافق الامريكي-الروسي على مكافحة الإرهاب ليصبح توافقاً سياسياً يعاود الاعتماد عليه كطرف وحيد قادر على مواجهة ذلك الخطر.
وعلى رغم أن الفتور بين واشنطن وموسكو لم يبلغ بعد حدّ الخصام والمواجهة، إلا أنه بدّد رهانات الأسد التي لم تكن صلبة على أي حال.
من جهة أخرى، هناك من يرى في التصعيد الكيماوي ملامح من حقبة الحرب الباردة قد تكون تقاطعت فيه رغبتا روسيا والنظام السوري في إطلاق رسالة تحدٍّ إلى الولايات المتحدة، بغية استكشاف خياراتها وبالتالي إظهار عجزها لدفعها إلى التنازل ترجيحاً وتسريعاً للحل السياسي.
فموسكو قدّرت أن الأمريكيين لن يذهبوا إلى أي خيار عسكري ضد سوريا خارج إطار مجلس الأمن، لا لأنهم يتوقعون ردّاً عسكرياً روسياً، بل لأنهم يخشون رداً بالخروج من منظومة العقوبات المفروضة على إيران التي يعتبرها أوباما أفضل ما حققته دبلوماسيته ولا يريد المجازفة بها الآن.
وكانت واشنطن حددت، بالتفاهم مع موسكو، تنازلات معينة لإنجاح «جنيف 2»، ولم يجد النظام أنها تناسبه كونها لا تجدد منحه الضمانات التي تمتع بها سابقاً. لذا عبرت مصادره إعلامياً عن ضيقه خصوصاً من التلكؤ الأمريكي في التحضير لـ»المؤتمر الدولي للسلام»، لكن الأهم والأخطر أن اندفاعات قوات النظام -تحديداً في الغوطتين- بدأت تواجه بأسلحة نوعية تعطل الدبابات وتسقط الطائرات، وبالتالي اختار الردّ كعادته بسلاح يفوق ما تحصل عليه المعارضة.
لاشك في أن الرسالة الأكثر وضوحاً في التحدي الذي افتعله النظام للمجتمع الدولي بالتصعيد الكيماوي خلال وجود محققي الأمم المتحدة في دمشق، هي أنه متمسك بتفوقه العسكري في الداخل ولن يوافق إطلاقاً على تعديل ميزان القوى حتى لو اضطر لإخراج سلاحه المحظور من مخابئه.
إلى ذلك، أراد النظام أيضاً تأكيد تمسكه بالسيطرة على دمشق، مقر حكمه وغطاء «شرعيته» ومحور مساوماته المقبلة، فإذا خسرها لينكفئ إلى الساحل يصبح مجرد طرف محارب. والواقع أن كل الإشارات الخارجية التي تلقاها النظام من تأجيل «الحل السياسي» وعدم الشروع به في التوقيت الذي تمناه لم تكن في الاتجاه الذي يطمئنه بالنسبة إلى وضعه في دمشق.
يضاف إلى ذلك استهداف موكب الأسد وشعوره باقتراب الخطر منه شخصياً، وهو ما قالت مصادر المعارضة إنه شكل سبباً مباشراً للانتقام الكيماوي.
كان ثمة انتقام آخر للنظام، إذ هاله سقوط مناطق في ريف اللاذقية في أيدي فصائل محسوبة على المعارضة، فأُجبر على سحب قسم من قواته الخاصة من محيط دمشق وجبهات أخرى ليستعيدها.
وبعدما توصل إلى إنهاء الاختراق هناك لم يكن متوقعاً أن يمرر هذه التجربة، التي هزّت كيان طائفته، من دون أن يثأر بضربة قاسية. سبق لأوساط النظام أن حذرت بأن الهدف الرئيس للسلاح الكيماوي ردع أي هجمات على منطقة الساحل وتحصين حمايتها، بالأخص إذا تمكنت من نيل اعتراف دولي بخصوصيتها في أي تسوية للنزاع. غير أن أعوان النظام يعبرون منذ فترة عن غضب واستياء لأن الغرب لايزال يرفض البحث والتداول في التقسيم، ولأن النظام و»حلفاءه» لم يحسنوا إدارة هذه المسألة. لكن، يبقى أن الانتقام ما كان ليشكل رسالة ردعية لو لم يحصل بـ»الكيماوي»، بل لو لم يحصل في ضاحية دمشق.
عن «الحياة» اللندنية