لقد جاء قرار مجلس جامعة الدول العربية في 31 أغسطس 2013 باعتماد وإنشاء المحكمة العربية لحقوق الإنسان تتويجاً لجهود مباركة أطلقها جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى في نوفمبر 2011 لتكون ضمن مبادراته التاريخية المهمة والمباركة في التعبير عن حرص جلالته في الاهتمام بقضايا الديمقراطية والإصلاح السياسي والاقتصادي ورعاية حقوق الإنسان.
ولقد استمر العمل من أجل هذه المبادرة على مدى ما يقرب من عامين من الاجتماعات المكثفة والمتواصلة في الإطار البحريني ثم الخليجي ثم العربي واضطلعت وزارة الخارجية بقيادة المايسترو الشيخ خالد بن أحمد بن محمد آل خليفة ورئيس أركانه حمد العامر المسؤول عن الشؤون الخليجية والعربية دوراً في تحقيق هذا الإنجاز من حيث المتابعة وطرح الرؤى في الإطارين الخليجي والعربي حتى تم اعتمادها والموافقة على أن تكون مملكة البحرين هي مقر هذه المحكمة، ولعل هذه هي أول منظمة عربية يكون مقرها مملكة البحرين ولذلك فعندما يسجل تاريخ التطور الحقوقي والسياسي لمملكة البحرين الحديثة بل والمنطقة العربية بأسرها فإن من أوائل الأحداث ذات الأهمية والدلالة هي إنشاء هذه المحكمة واستضافة البحرين لها.
ويهمني أن أشير لبعض دلالات إنشاء هذه المحكمة العربية لحقوق الإنسان وفي مقدمة تلك الدلالات ما يلي.
الأولى: إن هذه هي أول محكمة لحقوق الإنسان في الإطار العربي ومن ثم فهي تكمل البناء الحقوقي العالمي فهناك محاكم لحقوق الإنسان في أقاليم العالم المختلفة مثل المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان وهي أول محكمة تم إنشاؤها في هذا المجال منذ الخمسينات من القرن الماضي والمحكمة الأمريكية لحقوق الإنسان وتغطي الأمريكيتين والمحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والآن تظهر للوجود المحكمة العربية لحقوق الإنسان بفضل مبادرة جلالة الملك المفدى وحكمته ورؤيته الاستراتيجية.
الثانية: إن المنطقة العربية هي أكثر المناطق سبقاً في الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان لارتباطها بالإسلام الذي أطلق أول وثيقة للحقوق وهي صحيفة المدينة التي أقرت بأهم ثلاثة «حقوق إنسان» أولها حق المواطنة المتساوية بين المسلمين وغيرهم من أهل المدينة، وثانيها حق الدفاع عن الوطن دفاعاً جماعياً، حيث نصت الوثيقة على أن المسلمين واليهود وغيرهم من أهل المدينة يتناصرون للدفاع عنها، وثالثها حق حرية اعتناق الدين فلم يفرض الإسلام على جميع أهل المدينة اعتناق الإسلام بل ترك كل مواطن حراً يعتنق ما يشاء من الأديان والعقائد بإرادته واقتناعه.
ثم جاءت الوثيقة الثانية في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع عندما أكد على عدة حقوق وهي الحق في الحياة، حرمة الدماء وحرمة الأموال والأعراض، حقوق المرأة لقول الرسول «لا يكرم النساء إلا كريم ولا يهينهن إلا لئيم».
الثالثة: آيات عديدة في القرآن الكريم تنص على حرية اعتناق الأديان وحرية العبادة واحترام آلهة غير المسلمين ومعابدهم، وهذه كلها آيات ذات دلالة لدحض من يتقولون على الإسلام ظلماً وزوراً بأنه يرفض الاعتراف بالآخر ونشير فقط لثلاث آيات من القرآن الكريم للدلالة على ما ذهبنا إليه أولها الحق في الحياة «من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون «المائدة: 32»، وثانيها حرية الدين «لكم دينكم ولي دين» «الكافرون: 6». وثالثها قوله تعالى «ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون» «الأنعام: 108».
وهناك عشرات الآيات القرآنية الشريفة والأحاديث النبوية الشريفة التي تتناول ذلك. وصفوة القول هنا إن الإسلام أكد مفهوم الحقوق الإنسانية للناس كافة بلا تمييز بسبب العرق أو الأصل أو الدين أو الجنس.
الرابعة: إنه في العمل السياسي والحقوقي والاقتصادي لا يكفي الإقرار بالحقوق وإنما من الضروري وجود آليات لحماية هذه الحقوق ومن هنا أهمية مبادرة إنشاء المحكمة العربية لحقوق الإنسان وهذا هو المغزى التاريخي والسياسي والفلسفي لمبادرة الملك حمد بن عيسى آل خيفة والتي ينبغي أن توضع موضع التنفيذ السريع بعد أن تم إقرارها من كافة الجهات الرسمية على المستوى العربي وإقرار استضافة البحرين لها.
الخامسة: إنني أدعو كافة المثقفين والحقوقيين لإبراز الاهتمام بهذه المبادرة وإعطائها ما تستحق من دراسة ومتابعة حتى يكون ذلك دافعاً لمزيد من المبادرات، ولكي نستعيد نحن العرب الثقة في أنفسنا بعد سنوات كثيرة من الإحباط وجلد الذات، وحقاً القول الحكيم «لأن تضيء شمعة خير من أن تلعن الظلام»، إن الفكر الإيجابي أهم عشرات المرات مردوداً من فكرة واحدة سلبية، إن إنشاء المحكمة العربية لحقوق الإنسان سيكون منارة للدفاع عن حقوقنا ولتطوير نظمنا السياسية والاقتصادية في المستقبل بمنهج تدريجي فاعل بناء، بعيداً عن الثورات والتمرد والانقلابات التي هي ربما أفكار جاذبة شكلاً، ولكنها تعبر عن أحلام وردية، وليس عن واقع التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. إنه ينبغي أن نقلد غيرنا في الفكر البناء والعمل الإيجابي والإنجاز الحقيقي، ونبني مجتمعاتنا سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وحقوقياً لبنة فوق لبنة بدلاً من العمل على تدمير ما هو قائم بدعوى ومنطق التغيير الثوري والجذري الكامل، فإذا هدمنا ما لدينا فلا نستطيع إعادة البناء ونتحسر على ما فات. إن عملية التغيير السياسي هي عملية تطويرية صاعدة كما حدث في أوروبا وأمريكا وغيرها، إنه لا يمكن تغيير الأوضاع بين عشية وضحاها، بل بتطور تدريجي مستمر يخفف معاناة الشعوب ويحقق تقدمها، ويكفي أن نشير إلى أن الثورة الفرنسية أخذت حوالي مائة عام حتى استقرت الأوضاع في فرنسا، وثورات الربيع العربي التي بدأت ربما منذ غزو العراق عام 2003 ثم انطلقت بعد عشر سنوات في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا لم تحقق الكثير، بل قوضت البناء القائم، رغم كل عيوبه وكان يجب أن يقوض ولكن كان ينبغي أن يتم تطويره عبر حكمة القادة والشعوب، أما التمرد والانقلابات والثورات فلم تقم بناء بعد، بل ترتب على ذلك الكثير من المعاناة للشعوب فضلاً عن القتل للأفراد والدمار للمنشآت وانتشار حالات الحقد والكراهية والعداء، وبروز الفكر الطائفي والديني الذي يزيد حدة الكراهية بدلاً من أن يكون الدين هو القوة الدافعة للمحبة والتعاون بين الأفراد في الوطن الواحد وبين الشعوب التي تنتمي لمنطقة أو ثقافة واحدة وبين العالم بأسره.
* باحث في قضايا حقوق الإنسان والدراسات الاستراتيجية الدولية
{{ article.visit_count }}
ولقد استمر العمل من أجل هذه المبادرة على مدى ما يقرب من عامين من الاجتماعات المكثفة والمتواصلة في الإطار البحريني ثم الخليجي ثم العربي واضطلعت وزارة الخارجية بقيادة المايسترو الشيخ خالد بن أحمد بن محمد آل خليفة ورئيس أركانه حمد العامر المسؤول عن الشؤون الخليجية والعربية دوراً في تحقيق هذا الإنجاز من حيث المتابعة وطرح الرؤى في الإطارين الخليجي والعربي حتى تم اعتمادها والموافقة على أن تكون مملكة البحرين هي مقر هذه المحكمة، ولعل هذه هي أول منظمة عربية يكون مقرها مملكة البحرين ولذلك فعندما يسجل تاريخ التطور الحقوقي والسياسي لمملكة البحرين الحديثة بل والمنطقة العربية بأسرها فإن من أوائل الأحداث ذات الأهمية والدلالة هي إنشاء هذه المحكمة واستضافة البحرين لها.
ويهمني أن أشير لبعض دلالات إنشاء هذه المحكمة العربية لحقوق الإنسان وفي مقدمة تلك الدلالات ما يلي.
الأولى: إن هذه هي أول محكمة لحقوق الإنسان في الإطار العربي ومن ثم فهي تكمل البناء الحقوقي العالمي فهناك محاكم لحقوق الإنسان في أقاليم العالم المختلفة مثل المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان وهي أول محكمة تم إنشاؤها في هذا المجال منذ الخمسينات من القرن الماضي والمحكمة الأمريكية لحقوق الإنسان وتغطي الأمريكيتين والمحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والآن تظهر للوجود المحكمة العربية لحقوق الإنسان بفضل مبادرة جلالة الملك المفدى وحكمته ورؤيته الاستراتيجية.
الثانية: إن المنطقة العربية هي أكثر المناطق سبقاً في الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان لارتباطها بالإسلام الذي أطلق أول وثيقة للحقوق وهي صحيفة المدينة التي أقرت بأهم ثلاثة «حقوق إنسان» أولها حق المواطنة المتساوية بين المسلمين وغيرهم من أهل المدينة، وثانيها حق الدفاع عن الوطن دفاعاً جماعياً، حيث نصت الوثيقة على أن المسلمين واليهود وغيرهم من أهل المدينة يتناصرون للدفاع عنها، وثالثها حق حرية اعتناق الدين فلم يفرض الإسلام على جميع أهل المدينة اعتناق الإسلام بل ترك كل مواطن حراً يعتنق ما يشاء من الأديان والعقائد بإرادته واقتناعه.
ثم جاءت الوثيقة الثانية في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع عندما أكد على عدة حقوق وهي الحق في الحياة، حرمة الدماء وحرمة الأموال والأعراض، حقوق المرأة لقول الرسول «لا يكرم النساء إلا كريم ولا يهينهن إلا لئيم».
الثالثة: آيات عديدة في القرآن الكريم تنص على حرية اعتناق الأديان وحرية العبادة واحترام آلهة غير المسلمين ومعابدهم، وهذه كلها آيات ذات دلالة لدحض من يتقولون على الإسلام ظلماً وزوراً بأنه يرفض الاعتراف بالآخر ونشير فقط لثلاث آيات من القرآن الكريم للدلالة على ما ذهبنا إليه أولها الحق في الحياة «من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون «المائدة: 32»، وثانيها حرية الدين «لكم دينكم ولي دين» «الكافرون: 6». وثالثها قوله تعالى «ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون» «الأنعام: 108».
وهناك عشرات الآيات القرآنية الشريفة والأحاديث النبوية الشريفة التي تتناول ذلك. وصفوة القول هنا إن الإسلام أكد مفهوم الحقوق الإنسانية للناس كافة بلا تمييز بسبب العرق أو الأصل أو الدين أو الجنس.
الرابعة: إنه في العمل السياسي والحقوقي والاقتصادي لا يكفي الإقرار بالحقوق وإنما من الضروري وجود آليات لحماية هذه الحقوق ومن هنا أهمية مبادرة إنشاء المحكمة العربية لحقوق الإنسان وهذا هو المغزى التاريخي والسياسي والفلسفي لمبادرة الملك حمد بن عيسى آل خيفة والتي ينبغي أن توضع موضع التنفيذ السريع بعد أن تم إقرارها من كافة الجهات الرسمية على المستوى العربي وإقرار استضافة البحرين لها.
الخامسة: إنني أدعو كافة المثقفين والحقوقيين لإبراز الاهتمام بهذه المبادرة وإعطائها ما تستحق من دراسة ومتابعة حتى يكون ذلك دافعاً لمزيد من المبادرات، ولكي نستعيد نحن العرب الثقة في أنفسنا بعد سنوات كثيرة من الإحباط وجلد الذات، وحقاً القول الحكيم «لأن تضيء شمعة خير من أن تلعن الظلام»، إن الفكر الإيجابي أهم عشرات المرات مردوداً من فكرة واحدة سلبية، إن إنشاء المحكمة العربية لحقوق الإنسان سيكون منارة للدفاع عن حقوقنا ولتطوير نظمنا السياسية والاقتصادية في المستقبل بمنهج تدريجي فاعل بناء، بعيداً عن الثورات والتمرد والانقلابات التي هي ربما أفكار جاذبة شكلاً، ولكنها تعبر عن أحلام وردية، وليس عن واقع التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. إنه ينبغي أن نقلد غيرنا في الفكر البناء والعمل الإيجابي والإنجاز الحقيقي، ونبني مجتمعاتنا سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وحقوقياً لبنة فوق لبنة بدلاً من العمل على تدمير ما هو قائم بدعوى ومنطق التغيير الثوري والجذري الكامل، فإذا هدمنا ما لدينا فلا نستطيع إعادة البناء ونتحسر على ما فات. إن عملية التغيير السياسي هي عملية تطويرية صاعدة كما حدث في أوروبا وأمريكا وغيرها، إنه لا يمكن تغيير الأوضاع بين عشية وضحاها، بل بتطور تدريجي مستمر يخفف معاناة الشعوب ويحقق تقدمها، ويكفي أن نشير إلى أن الثورة الفرنسية أخذت حوالي مائة عام حتى استقرت الأوضاع في فرنسا، وثورات الربيع العربي التي بدأت ربما منذ غزو العراق عام 2003 ثم انطلقت بعد عشر سنوات في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا لم تحقق الكثير، بل قوضت البناء القائم، رغم كل عيوبه وكان يجب أن يقوض ولكن كان ينبغي أن يتم تطويره عبر حكمة القادة والشعوب، أما التمرد والانقلابات والثورات فلم تقم بناء بعد، بل ترتب على ذلك الكثير من المعاناة للشعوب فضلاً عن القتل للأفراد والدمار للمنشآت وانتشار حالات الحقد والكراهية والعداء، وبروز الفكر الطائفي والديني الذي يزيد حدة الكراهية بدلاً من أن يكون الدين هو القوة الدافعة للمحبة والتعاون بين الأفراد في الوطن الواحد وبين الشعوب التي تنتمي لمنطقة أو ثقافة واحدة وبين العالم بأسره.
* باحث في قضايا حقوق الإنسان والدراسات الاستراتيجية الدولية