لم أعهد بأنني رأيتها يوماً متذمرة أو متأففة رغم كم الضغوط التي تواجهها في حياتها اليومية، سواءً في المنزل أو العمل، فهي كالنحلة النشيطة، وما أن طلبت منها أمراً إلا وقالت لك وبابتسامة عريضة: «ابشر»، «ولا يهمك»، «تم وصار». فهي تقوم بكل ما بوسعها لإسعاد من حولها دون انتظار وعد أو مكافأة. ويمكن أن يكون المعدل الزمني لشكواها لا يزيد عن ثلاثين ثانية، وكي لا أكون مبالغة بالوصف ممكن أن تطول الفترة لتصل إلى دقيقتين أو ثلاث على الأكثر، وسرعان ما تحاول أن تخرج من دائرة الضيق التي تمر بها بكلمات إيمانية تبرد قلبها، وأنه لا اعتراض على الله في حكمه.
كما يقال بأن «لكل قاعدة شواذ» وما عهدناه بالأمس ليس بالضرورة أن يبقى على حاله اليوم، لاشك بأن الظروف تتغير ومن كان غاضباً فهو اليوم سعيد والعكس بالعكس صحيح.
فهذه المرة عندما التقيت بها لم أكن أسمعها تردد أغاني رويشد والجسمي بصوت هادئ ملؤه السعادة؛ بل كانت تردد كلمات كلها حزن وأسى، سألتها: «ما بك»، ردت عليّ: «موعود معايا بالعذاب يا قلبي». خوفي عليها من الوضع الذي رأيتها عليه دفعني لكي أسألها عن حالها وما هو العذاب الذي تنتظره، قالت: «بكل بساطة أنا يائسة وبائسة من الوضع الذي ممكن أن يمر به أولادي وأبناء هذا الجيل».
فمشكلة صديقتي للأسف لم تتمحور فقط بين أفراد عائلتها، فمن كلامها يظهر بأن المسألة يتعدى قطرها الجدران الـ4 للبيت الواحد، فهي الآن تتكلم بأسلوب الجمع، وهذا كان من حقها، فالأمر المرير لا يمكن أن يتم السكوت عنه أكثر، حيث إن المناهج التعليمية المقررة في وزارة التربية والتعليم لكل مرحلة صفية تفوق القدرة الاستيعابية لأعمار الطلبة الموجودين في الصفوف.
لاشك أننا موعودون بجيل إبداعي؛ لكن علينا قبل اختيار المناهج أن يتم عمل دراسة موضوعية إن كانت هذه المناهج سوف تتلاءم مع أعمار الطلبة وقدراتهم كمتلقين ومنفذين، وكي نحقق الغاية المرجوة من إرسال أبنائنا إلى المدارس. فالأمر الأكثر سوءاً أن بعض المعلمين أنفسهم لا يعلمون كيف يتعاملون مع هذه المناهج. مما دفع أحد المعلمات للحصول على دروس خصوصية في كيفية تدريس المادة المطروحة.
السؤال الثاني؛ هل كل الأهل على مقدرة مادية بأن يخصصوا مدرسين خصوصيين لتعليم أبنائهم؟! فماذا سيكون دور المدرسة إن كان الأهل يعلمون أبناءهم ويوفرون لهم مدرسين خصوصيين ويرسلونهم إلى مراكز التعليم الخاصة! في هذه الحالة لم يبقّ لهم سوى وضع الامتحانات وأن يقوموا بتصحيحها!
حقاً إنه موعد مع العذاب، لا أحد يعلم أين ينتهي وإلى أي مستوى ممكن أن يصل، وأنا على يقين بأن كثيرين يجهلون أن في الدول المتقدمة التي عادة ما نضرب بها المثل في الحضارة عندما يقومون بوضع منهج تعليمي جديد يقومون بدراسة شاملة للبيئة المحيطة بالمجتمع الطلابي لدرجة أنهم يأخذون بعين الاعتبار أيضاً المناخ «أي حالة الطقس العام للبلد»، باعتبار أنه يوجد فرق كبير بين أن نتنفس هواء المكيف المحمل بالغبار وبين الهواء النقي والمفعم برحيق الأشجار.
ويرد على وعد صديقتي المحمل بالعذاب كلام أمير الشعراء أحمد شوقي، عندما قال..
أمعلمي الوادي وساسـة نشئـهِ
والطابعيـــــن شبابــــه المأمــــــولا
والحامليــــــــنَ إذا دُعـــوا ليعلمـوا
عــبءَ الأمانـــةِ فادحـــاً مســـؤولا
وَنيـــت خطــــى التعليـم بعـد محمدٍ
ومشــى الهوينــا بعـــد إسماعيــــلا