رغم الملاحظات الكثيرة التي يمكن أن نأخذها على رواية «نادي السيارات» للأديب المصري علاء الأسواني، وخصوصاً نهاية الرواية التي بدا فيها المؤلف محتاراً في فك خيوطها التي تشابكت فجأة، ومحاولته إنهاء ورطات بعض الشخصيات بأسلوب وعظي لا ينسجم مع تصاعد الأحداث، إلا أن شخصية (الكو) من الشخصيات التي أبدعها علاء الأسواني في الرواية، بل إنها أقوى شخصية في الرواية من حيث البنية الفنية ومن حيث البعد الإنساني العميق والدلالة الاجتماعية.
(الكو) هو كبير الخدم عند الملك فاروق ملك مصر قبل ثورة 1952م، وهو رجل نوبي اسمه قاسم محمد قاسم، اكتسب مكانته المؤثرة عند الملك من ملازمته له منذ طفولته. فقد شهد ولادة جلالته وتابعه وهو يترعرع ويكبر ويتعلم ركوب الدراجة ويتلقى الدروس الأولى في الفرنسية، وكان معنياً بإرضاء الأمير الصغير في السر والعلن، إذ كان يهرب له الحلوى من مطبخ القصر متجاوزاً بذلك النظام الغذائي الصارم الذي فرضته مربية الأمير فاروق الإنجليزية عليه، وكان هو من يدبر له مواعيد الغرام في مراهقته مع فتيات الطبقة الراقية. ومع طول الصحبة والتربية والملازمة عرف (الكو) لوحة مفاتيح شخصية الأمير فاروق وأتقن قراءة الحالة المزاجية والذهنية له، فاكتسب بذلك ثقة فاروق، وامتلك نفوذاً عظيماً وسلطات واسعة حين صار فاروق ملكاً.
كانت المهمة الرئيسة (للكو) هي جلب الخدم من جنوب مصر واختيارهم وفق معايير تليق بالقصور الملكية، وتدريبهم تدريباً يؤهلهم للتعامل مع أسر العائلة المالكة ومع الأجانب العاملين في مصر وفي نادي السيارات تحديداً. لكن صلاحياته المستمدة من علاقته المباشرة بالملك كانت تتجاوز شؤون الخدم إلى شؤون الحكم. فمن مهام (الكو) فتح جميع مراسلات الدولة أياً كانت سريتها أو خطورتها، وعرضها على الملك لأخذ التوجيه، وحين يكون الملك سيء المزاج فهو يحيلها إلى جناب (الكو) لاتخاذ اللازم قائلاً: «اتصرف يا قاسم»!!، وهنا يتدخل قاسم في تحويل الرسالة للجهة التي يختار، ويفتي في شأنها: نوافق أو لا نوافق.
تلك الصلاحيات وذلك النفوذ لم يخفه سلوك (الكو) تجاه من حوله جميعاً، حتى الوزراء، فكان يسمح بدخول من يشاء ويمنع عن الملك من يشاء، وإن كان رئيس الوزارة شخصياً، وكان الجميع ينصاع لسطوة جناب (الكو) لأنهم، وإن كانوا يدركون حقيقة كونه خادماً جاهلاً، إلا أنهم يعرفون ألّا أحد يمكن أن يخترق المكانة المؤثرة التي منحه إياها الملك فاروق، وكانوا يدركون تماما أن (الكو) قادر على إيغال قلب الملك على أي وزير كان وقادر على التوسط له ورفع مكانته. وبذلك تساوى مقام الوزراء وكبار موظفي الدولة مع مقام الخدم في نظر (الكو). وإذا كان استكبار (الكو) على الخدم يكمن في تعذيبهم إن أخطأوا وفي تقاسم الأرباح معهم قسمة تهضم حقهم، فإن استكباره على كبار موظفي الدولة يكمن في الحيلولة بينهم وبين الملك وفي امتلاكه نفوذاً مؤثراً على قرارات الملك وعلى علاقاته بالمسؤولين وبموظفي الدولة والقصر. وإذا كانت مقولة (الكو) الشهيرة: «أنا خادم مولانا الملك وخادم الأجانب، لكني سيدكم ورئيسكم الأعلى» موجهة للخدم، إلا أنه لم يستثن منها الوزراء وكبار موظفي الدولة.
ولم تفلح محاولات الخدم التمرد على (الكو) أو التفاهم معه على تحسين أوضاعهم، بل كانت تجابه بالتعذيب وباستخدام الجهات الأمنية ضد من يخرج عن طوعه، وانتهت قصة (الكو) بقتله في نهاية الرواية، ليبقى رمزاً نقابله كثيراً في حياتنا لأشخاص لا مؤهلات ترفع من قدرهم ولا مهارات تعزز من وضعهم سوى تذللهم لمن فوقهم واستمرائهم دور الخادم المطيع الذي يطيع مسؤوله وينفذ أوامره دون مناقشة.
وكثيراً ما تتشكل علاقة تماهي بين السيد والخادم الذي يتحول بدوره إلى سيد، فحين تنتقد الخادم فكأنك تنتقد من عينه في الخدمة، وحين تختلف مع الخادم فكأنك تشكك في سلامة قرار من اختاره. وعند تخبطات هؤلاء الخدم وفي تكبرهم على من حولهم وتجبرهم على من يرأسون فإنهم ينسون أن كونهم خدماً لملوكهم فهذا لا يعني أن الآخرين يرونهم ملوكاً بالفعل!!