في غمرة انشغالاتهم باليومي والمكرر ينسى الكثيرون، حتى الحكماء منهم، قوانين الحياة، ينسون الشكر والحمد والثناء على ما أعطاهم الله من نعم، أعطاهم الصحة، وأعطاهم الشهرة، وأعطاهم المعرفة، واحترام الناس لهم ولما قدموه من صالح الأعمال. أقول ينسون ما عندهم من نعم كثيرة تكاد تفيض من قلوبهم إلى الآخرين، بعضنا يتصور نفسه أكثر علماً ومعرفة من الذين يمرون أمامه في الطريق، كناسك أو صعلوك أو كهل أو عجوز، ولا يدري أن الحكمة التي استقوها من الحياة أكثر من كل قراءاته التي قرأ. من هنا نرى أن هذا العالم الفاهم المثقف لا يعرف كيفية التصرف إذا مر في مشكلة ما كان يتوقعها.
يروي الدكتور إبراهيم الفقي في أحد كتبه قصته مع عجوز، يقول في قصته: ذات مرة كنت خارجاً من إحدى البلدان العربية وحقائبي لم تأتِ وفيها ملابسي، وفي اليوم التالي سوف ألقي محاضرة في الجامعة، وكنت خارجاً من المطار ويظهر عليّ الضيق، فوجدت سيدة عجوز جاءت إليّ وقالت لي: ألست الدكتور إبراهيم الفقي؟ كنت أريد أن أقول لها لا..
قلت: أهلاً وسهلاً.
قالت: هل حقائبك لم تأتِ؟
قلت: لا.
قالت: إذاً فلتتقبل هدية.
إنها تقول لي ما أقوله للناس، وكأنها وفق المثل المصري « تبيع الماء في حارة السقايين».
قلت: أتقبل هدية؟
قالت لي: طبعاً يا دكتور، سأسلك سؤالاً؛ هل كنت تفضل أن تأتي الحقائب وأنت لا تأتي؟
قلت: لا طبعاً.
قالت: إذاً عليك أن تحمد الله، وترسم ابتسامة على وجهك وإن شاء الله خير.
قلت: إن الله قد بعثك لي كي تذكريني بأشياء أقولها أنا للناس؛ لأنني سافرت كثيراً، وفي المطارات من الممكن أن تتأخر الطائرات، والناس يكونون في ضيق شديد، وفي هذه الحالات أنا والكمبيوتر وأعمل، ومعظم مؤلفاتي ألفتها في الطائرات وفي أوقات الانتظار.
إن ما طرحه الدكتور الفقي في قصته هذه عليه أن يعطينا القدرة على فهم طبيعة الحياة التي نعيش، فأن تتأخر حقيبة السفر فهذا ليس نهاية العالم.
في رحلة من الرحلات إلى السويد مع الدكتور عبدالله يتيم، ضاعت حقيبة ملابسي بين مطار هولندا ومطار السويد، انزعجت من ضياع الحقيبة، وقلت لنفسي نحن في السويد ولسنا في صحراء قاحلة، لذلك ما أن عرفنا الفندق الذي نسكن، توجهت مع الدكتور يتيم إلى أقرب مجمع واشتريت ما أحتاج إليه من ملابس وفرشاة ومعجون أسنان وبعض الأشياء الأخرى التي لا أتذكرها.
ما أريد الوصول إليه هو أن نعي أننا ما دمنا وصلنا سالمين إلى المحطة التي نقصد، فكل الأمور تهون، لذلك حينما قالت العجوز: سأسألك سؤالاً؛ هل كنت تفضل أن تأتي الحقائب وأنت لا تأتي؟
فإنها كانت تعرف وصولك هو المهم، فقد كان من الممكن أن تسقط الطائرة، أو تختطف، أو على رأي العجوز: أنك لا تأتي.
خذ الحكمة من العجوز..
خذ الحكمة من الكهل..
خذ الحكمة من الكناس والصعلوك فهم يعرفون عبر تجربتهم الحياتية ما لا تعرف أنت رغم شهاداتك وقراءتك ومؤلفاتك.