لا أعلم ما هو السبب الحقيقي الذي يدفعني من الداخل في هذه الأيام تحديداً للالتصاق بالمنامة، وزيارتها كل ليلة والجلوس في أجمل الأماكن فيها، تلك التي تفوح منها رائحة الذكريات الجميلة.
اكتشفتُ هذا السر ومكامن الحيرة لدي حين وجدتُ بعضاً من أصدقاء الماضي يتسللون مثلي خلسة كل ليلة إلى المنامة ليبرهنوا أنهم أبناؤها الذين لم تبارح كل تفاصيل طفولتهم هذه المدينة المعتقة بالحب والحنان.
كل أهل المنامة غادروها بسبب الطفرة العمرانية والنفطية التي شهدتها البحرين مع بداية مطلع السبعينات من القرن العشرين، لكن سرعان ما تتلبسهم الكآبة في مناطقهم الحالية التي تخلو من الحيوية والحياة، فيعودوا ليتخذوا من المنامة حضناً دافئاً لهم من وحشية التحضر العمراني الزائف، حتى يكتفي بعض أهلها بالجلوس في إحدى المقاهي الشعبية القديمة، فيكون ذلك بالنسبة لهم، أجمل من البقاء في محاضنهم الحاضرة التي نُسِجتْ بالإسمنت القبيح.
لا يعي لذة الرجوع إلى الحاضنة الأم «المنامة» سوى من ترعرع على ترابها ونمى بين خصلات ذكرياتها، فتشبعت أرواحهم بماء البحر وطرقات «الفرجان» التي أنتجت فلسفة الحب ونبذ كل صور الكراهية، لأن من عاش بعيداً عن المنامة فإنه يفتقد الكثير من هذه المعاني الكبيرة.
بالطبع، نستطيع البوح هنا، أن هذا هو الجانب المضيء من الانطباعات المعنوية حين نركن للمنامة، لكن هنالك ما يؤلم أكثر من كل هذا الفرح والسرور الروحي لأبناء العاصمة حتى يكاد يبددهُ، وذلك حين يتلفتون في كل زقاق وشارع فلا يجدوا أي إنسان بحريني يسكن هذه المدينة التي أنجبت العلماء والمثقفين والفنانين والمبدعين والمعلمين والمربين والتجار والوجهاء وكل ما هو جميل، بل لقد امتلأت المنامة بكل ما هو أجنبي عن روحها وانتماءاتها الوطنية.
حين تتجول في شوارع المنامة وفي سوقها وبين حواريها، فإنك تشعر بالكثير من الغربة الخانقة، حتى يُخيّل إليك أنك تسير في أحد أحياء الهند أو الصين أو الفلبين أو بنغلادش، فتخنقك العبرة ويضيق صدرك من هذا الموج الأجنبي، في أعرق العواصم العربية على الإطلاق.
إن تفريغ المنامة من أهلها ومن عروبتها ومن بحرينيتها وحتى من تاريخها، هي مسؤولية مشتركة، ساهمت فيها الدولة عبر خطط غير واضحة وفيها الكثير من العشوائية في السابق، وبمساهمة شعبية من أهالي المنامة الذين رحلوا عن مساكنهم تاركين غرفها التي تفوح بالذكريات لعمال لا يعرفون من تاريخها أي شيء، كل ذلك في سبيل دنانير معدودات، أو من أجل بناء بناية تناطح السحاب، أما الحفاظ على هوية المنامة فإنها أصبحت آخر اهتمامات الناس والدولة.
إن محاولة وزيرة الثقافة لإحياء المنامة، وعلى الرغم من كونها تنطلق من موقعها الرسمي، سأحاول أجزم «ولتعذرني الوزيرة» أن كل مشاريعها في العاصمة تعتبر محاولات شخصية منها لإبقاء ما تبقى من تراثها وإرثها، ولهذا فإن الرهان على نجاح كل طموحاتها في ظل عدم تعاون القطاعات الرسمية والشعبية معها في تخليد صورة المنامة في الذاكرة الوطنية يعتبر ضرباً من الخيال، ولربما تحتاج وزيرة الثقافة لمعجزة لاستكمال حلمها وحلم كل إنسان عاش في عاصمة الحب.
{{ article.visit_count }}
اكتشفتُ هذا السر ومكامن الحيرة لدي حين وجدتُ بعضاً من أصدقاء الماضي يتسللون مثلي خلسة كل ليلة إلى المنامة ليبرهنوا أنهم أبناؤها الذين لم تبارح كل تفاصيل طفولتهم هذه المدينة المعتقة بالحب والحنان.
كل أهل المنامة غادروها بسبب الطفرة العمرانية والنفطية التي شهدتها البحرين مع بداية مطلع السبعينات من القرن العشرين، لكن سرعان ما تتلبسهم الكآبة في مناطقهم الحالية التي تخلو من الحيوية والحياة، فيعودوا ليتخذوا من المنامة حضناً دافئاً لهم من وحشية التحضر العمراني الزائف، حتى يكتفي بعض أهلها بالجلوس في إحدى المقاهي الشعبية القديمة، فيكون ذلك بالنسبة لهم، أجمل من البقاء في محاضنهم الحاضرة التي نُسِجتْ بالإسمنت القبيح.
لا يعي لذة الرجوع إلى الحاضنة الأم «المنامة» سوى من ترعرع على ترابها ونمى بين خصلات ذكرياتها، فتشبعت أرواحهم بماء البحر وطرقات «الفرجان» التي أنتجت فلسفة الحب ونبذ كل صور الكراهية، لأن من عاش بعيداً عن المنامة فإنه يفتقد الكثير من هذه المعاني الكبيرة.
بالطبع، نستطيع البوح هنا، أن هذا هو الجانب المضيء من الانطباعات المعنوية حين نركن للمنامة، لكن هنالك ما يؤلم أكثر من كل هذا الفرح والسرور الروحي لأبناء العاصمة حتى يكاد يبددهُ، وذلك حين يتلفتون في كل زقاق وشارع فلا يجدوا أي إنسان بحريني يسكن هذه المدينة التي أنجبت العلماء والمثقفين والفنانين والمبدعين والمعلمين والمربين والتجار والوجهاء وكل ما هو جميل، بل لقد امتلأت المنامة بكل ما هو أجنبي عن روحها وانتماءاتها الوطنية.
حين تتجول في شوارع المنامة وفي سوقها وبين حواريها، فإنك تشعر بالكثير من الغربة الخانقة، حتى يُخيّل إليك أنك تسير في أحد أحياء الهند أو الصين أو الفلبين أو بنغلادش، فتخنقك العبرة ويضيق صدرك من هذا الموج الأجنبي، في أعرق العواصم العربية على الإطلاق.
إن تفريغ المنامة من أهلها ومن عروبتها ومن بحرينيتها وحتى من تاريخها، هي مسؤولية مشتركة، ساهمت فيها الدولة عبر خطط غير واضحة وفيها الكثير من العشوائية في السابق، وبمساهمة شعبية من أهالي المنامة الذين رحلوا عن مساكنهم تاركين غرفها التي تفوح بالذكريات لعمال لا يعرفون من تاريخها أي شيء، كل ذلك في سبيل دنانير معدودات، أو من أجل بناء بناية تناطح السحاب، أما الحفاظ على هوية المنامة فإنها أصبحت آخر اهتمامات الناس والدولة.
إن محاولة وزيرة الثقافة لإحياء المنامة، وعلى الرغم من كونها تنطلق من موقعها الرسمي، سأحاول أجزم «ولتعذرني الوزيرة» أن كل مشاريعها في العاصمة تعتبر محاولات شخصية منها لإبقاء ما تبقى من تراثها وإرثها، ولهذا فإن الرهان على نجاح كل طموحاتها في ظل عدم تعاون القطاعات الرسمية والشعبية معها في تخليد صورة المنامة في الذاكرة الوطنية يعتبر ضرباً من الخيال، ولربما تحتاج وزيرة الثقافة لمعجزة لاستكمال حلمها وحلم كل إنسان عاش في عاصمة الحب.