قد تكون ضرورة «المواءمة السياسية» هي التي أجازت غض الطرف عن المخالفات التي تبدت في إنفاذ قانون الجمعيات السياسية، وحالت دون إحالة بعض الجمعيات السياسية المخالفة للقانون إلى القضاء.
وقد يكون مبرر «المواءمة السياسية» سلطة تقديرية تذرعت بها وزارة العدل، وربما كانت تلك المواءمة قراراً جاء من جهات نافذة أعلى من وزارة العدل -وهذا هو الأرجح- جهات لها صلاحية السلطة التقديرية بالمواءمة بين إنفاذ القانون أو تعطيله! فحالت المواءمة السياسية دون رفض منح التراخيص لبعض الجمعيات خاصة تلك التي تأسست قبل صدور القانون ما لم تعدل تلك الجمعيات أوضاعها.
فنص المادة 4 من قانون الجمعيات السياسية الذي صدر بعد عام من منح رخص لجمعيات سياسية يقول التالي «ألا تقوم الجمعية على أساس طبقي أو طائفي أو فئوي أو جغرافي أو مهني، أو على أساس التفرقة بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة»، وكانت الدولة قد منحت تراخيص لجمعيات كالوفاق والمنبر والأصالة وأمل وهي جمعيات تخالف القانون مخالفة صريحة من حين قدمت أسماء المؤسسين وهم ينتمون للون مذهبي طائفي صرف، وأنه وإن لم ينص نظامهم الأساسي على انتماءات أعضائها الدينية، إلا أن الخرق واضح في التطبيق ولا يمكن إنكاره، وكان بإمكان وزارة العدل وقف منح الترخيص والتمسك بنص القانون وروحه حين طلبت من الجمعيات تعديل أوضاعها للتطابق مع القانون، والقانون يعطيها الحق في منع قيام مثل هذه الجمعيات، لكنها -مع الأسف- منحتهم الترخيص ربما -للمواءمة السياسية- ولم تطالب أي منهم بتعديل أوضاعها بعد الترخيص ولم تراقب تسجيل العضويات فيما بعد لتجد أن تلك المخالفة تكرست وتفاقمت وأسست جمعيات سياسية قائمة على أسس دينية مذهبية.
وقد «نتفهم» أسباب استخدام هذه السلطة المواءمة السياسية التقديرية لأنها البدايات وحداثة التجربة الديمقراطية، رغم أننا لا نقبلها ونرفضها وفي هذه ينطبق تماماً المثل القائل بأن «الرمح من أول ركزة» لأنك ستبني قواعد وتكرس أعرافاً بناءً على الركزة الأولى، فإن سمحت بالمخالفات في التأسيس فستسمح بالجرائم في الممارسة، لكنك.. هه.. تبحث للتقصير عذراً أو تبريراً يساعدك على تقبل هذا الخطأ.
ورغم أن القانون منح وزير العدل صلاحية رفع دعوى ضد هذه الجمعيات أو غيرها وذلك بإحالتها للقضاء بناءً على المادة 22 التي تنص على أنه يجوز لوزير العدل إذا خالفت الجمعية أحكام الدستور أو قانون الجمعيات السياسية أو أي قانون آخر أن يطلب من المحكمة الكبرى بناءً على دعوى يقيمها الحكم بإيقاف نشاط الجمعية لمدة لا تزيد عن 3 شهور تقوم خلالها بإزالة المخالفة، إلا أن الوزير لم ينفذ القانون ولم يحل أياً من تلك الجمعيات المخالفة للقضاء.
وحين سكت المجتمع ممثلاً بسلطته الرقابية وبمؤسساته المدنية و بإعلامه عن تلك المخالفات وعن عدم إنفاذ القانون دفع الثمن غالياً في ما بعد.
وبدلاً من أن تستغل تلك الجمعيات الدينية السياسية تلك المساحة من الحرية وتلك الثقة الممنوحة لها في تعزيز الوحدة الوطنية وفي تأسيس أحزاب وطنية جامعة استغلت تلك المساحة في تكريس الانقسام وفي خلق مزيد منها.
وحين سكت على تبعات مثل هذه المخالفة لمدة تزيد عن العشر سنوات وترك المجتمع هذه الجمعيات تتمتع بكامل حقوقها السياسية من عمل عام ومن تأسيس مقرات ومن نزول للانتخابات بآلية تقسيمية للمجتمع دونما مراقبتها ودونما محاسبتها، وظفت تلك الجمعيات الاختلافات المذهبية لصالح الخلافات السياسية وتلك لعبة غاية في الخطورة، حتى جاء عام 2011 وفوجئنا بأن التدخلات الأجنبية لعبت على تلك الانقسامات وانحازت لبعض تلك الجمعيات مشكلةً بذلك تهديداً للأمن القومي ولعباً على نار الطائفية الحارقة، متذرعة بأن الدولة هي التي منحت التراخيص لجماعات دينية طائفية وليست هي إنما هي تتعامل مع واقع «شرعي»!!
وهنا تجاوزت جمعية الوفاق مستوى المخالفات ووصل بها الحال إلى ارتكاب جرائم وليس مخالفات، ارتكبت جرائم الواحدة منها تحل الجمعية بنص المادة 23 التي تنص على التالي: «يجوز لوزير العدل أن يطلب من المحكمة الكبرى الحكم بحل الجمعية وتصفية أموالها وتحديد الجهة التي تؤول إليها هذه الأموال وذلك إذا ارتكبت الجمعية مخالفة جسيمة لأحكام الدستور ...».
وداست الوفاق ومسحت بالدستور الأرض وأصبحت الطائفية مفتاحاً لباب خرق السيادة الوطنية، فتحركت الوفاق من داخل البرلمان وبأدوات دستورية تحركاً فئوياً يخدم أجندة فئوية سواء على صعيد الرقابة المحلية أو على صعيد الاتصالات الدولية ملتحفة برداء الحصانة البرلمانية.
ومع ذلك كله وقف وزير العدل حتى اللحظة منتظراً ضوءاً أخضر يعطل قصة «المواءمة السياسية» ويفعل القانون.
ورغم أن هناك عقوبات تصل إلى الحبس في نص هذا القانون بحق أعضاء الجمعية وبنصوص قوانين أخرى كقانون الجزاءات تصل إلى المؤبد، ولكن عطلت كلها وجمدت لأن وزير العدل لم يتخذ الإجراء القانوني القاضي برفع الدعوى على جمعية ولا على أعضاء الجمعية.
نحن اليوم نلزم وزير العدل بالقيام بمسؤوليته تجاه الأمن الوطني الذي باتت هذه الجمعية تهدده حين ارتكبت «جرائم» في حق المجتمع فاخترقت وانتهكت أمنه وسيادته وأحدثت شقاً في الوحدة الوطنية لم يشهد التاريخ لها مثيلاً، وفقدت شرعيتها بتلك المخالفات والجرائم ومن المفروض تطبيق القانون عليها وعدم استثنائها تحت أي ذريعة، حتى وإن استقوت بالولايات المتحدة الأمريكية وأمسكت بعباءة العم سام تهددنا بالاستعانة بها إن طالها القانون.
نلزم مجلس النواب بالاضطلاع بمسؤوليته في حفظ أمننا القومي وسيادتنا التي هددتها هذه الجمعية، ونلزمهم باستخدام أدواتهم الدستورية في استجواب الوزير إن تقاعس عن إنفاذ القانون، ونلزم القضاء بإنفاذ أحكام القانون في حال رفع الدعوى على الجمعية ووقف اتخاذ القرارات الحتمية بناءً على أي درجة من درجات المواءمة السياسية، فأي مواءمة سياسية تزول أسبابها حين تصل تبعاتها لتهديد الأمن القومي، وقد يكون هذا درساً لنا جميعاً لنتعلم بأن الرمح كان يجب أن يكون صحيحاً من أول ركزة.