كثير منا ربما يركز في الغالب على ما جاء به تقرير ديوان الرقابة الإدارية والمالية على موضوع الفساد المالي واختفاء المال العام، وكل منا يتعجب من اختفاء وتسرب ملايين الدنانير من خزائن بعض المؤسسات الرسمية، كما يطالب الجميع أن يُحاسَب من يثبت تورطه في التلاعب الواضح الذي وثَّقه ديوان الرقابة عبر الأعوام الماضية.
هذا الأمر في غاية الأهمية، لأن السكوت على المستهتر والسارق والمتلاعب والمتهاون في المال العام، يعني قبولنا بالفساد، ومن هنا جاءت المطالبة بمحاسبة المقصرين والمفسدين والمسرفين في المال العام، حسبما ذكر تقرير ديوان الرقابة الإدارية المالية، لكن هنالك أجزاء مهمة للغاية من التقرير لم تنل الاهتمام الكافي من طرف المراقبين والمشرعين والسياسيين، ألا وهي الأجزاء المتعلقة بالفساد الإداري.
إن من أصعب الأمور التي يمكن للتقرير أن يُوثقها هو الفساد الإداري، لكن ربما يمكن أن يقبض على هذا النوع من الفساد بعض أفراد المجتمع، كالمواطن العادي وكذلك الصحافيين والإعلاميين الذين يراقبون الوضع العام في مؤسسات الدولة، إذ إن زيارة مواطن (أي مواطن) لإحدى مؤسسات الدولة التي يمارس منتسِبوها فساداً إدارياً، كاللعب على مسألة التوظيف وإدخال مفاهيم فاسدة فيه وفي مسائل الترقي الوظيفي، كالشللية والمحسوبية والواسطات حين التوظيف والابتعاث الدراسي وما إلى ذلك، يمكن أن يكشف حقائق مؤلمة، كما يمكن للمراجعين لتلك المؤسسات الفاسدة أن يراقبوا إهدار الوقت الرسمي أثناء الدوام وما إلى ذلك، تلك المفاسد التي لا يمكن أن تلاحظها كاميرات المراقبة وكشوفات الحسابات المالية، لأن الفساد الإداري في كثير من جوانبه يلتصق بمسألة الضمير الحي والأخلاق، وأحياناً يستند على بعض الممارسات السلوكية غير الواضحة للموظف الفاسد إدارياً.
من هنا تأتي أهمية تطوير أدوات متابعة ومحاسبة المفسدين الإداريين، كما يجب على ديوان الرقابة الإدارية أو المالية أن ينشئ خطاً ساخناً للمواطنين والمقيمين كذلك، لملاحقة كل أشكال الفساد الإداري، من أجل توثيقها بدقة وعن قرب، حتى تكون الأدلة والشواهد واضحة حين صدور التقرير العام في كل عام.
نحن نؤمن أن تمرير بعثات لناس دون ناس يعتبر فساداً إدارياً صارخاً، كذلك قضايا التوظيف حين تفقد مقاييسها العلمية والعملية النزيهة يعتبر فساداً إدارياً آخر، كما نعتقد أن الموظف الذي يجلس على المنضدة وهو يتحدث مع أصدقائه وأحبائه من خلال جهازه المحمول، بينما هنالك عشرات المراجعين ينتظرون إنجاز معاملاتهم على وجه السرعة، هو موظف فاسد، لأن وقتهم أثمن بكثير من وقت مكالمات وثرثرات مع الأصدقاء أثناء الدوام الرسمي.
إن وجود خط ساخن بين ديوان الرقابة الإدارية والمالية (على اعتبار كونه جهازاً مستقلاً) يمكن أن يقلل فرص التلاعب الإداري، كما إن فتح خط مباشر لتلقي شكاوى المواطنين المتضررين من أخطر أنواع الفساد (الفساد الإداري) يمكن أن يسهل عملية الديوان، ليكون الديوان قريباً من الناس وبعيداً عن المؤسسة الرسمية، لأن من أهم وظائفه نصرة المظلوم ووقف كل أشكال الظلم، وهذا لن يتحقق في معانيه الجلية الواضحة إلا عبر الاستماع لشكاوى المواطنين الموثقة بالدليل القاطع، ممن يتعاملون بشكل يومي مع مؤسسات الدولة كلها.