أخطأت السفيرة باترسون عندما تصورت أن فكر الإخوان المسلمين سوف يسود في مصر لذلك فوجئت بثورة 30 يونيو 2013


إذا انتقلنا لدور السفراء الناعمين أو غيرهم؛ فإن الواقع يشير إلى أنهم عجزوا، كما عجز كثيرون، عن فهم شخصية مصر وهويتها الوطنية، لقد اخطأ كثيرون في فهم شخصية الشعب المصري وهوية مصر كدولة، ولعل في مقدمة هؤلاء بعض المستشرقين، لكن الأخطر في الأمر عندما يخطئ دبلوماسي أمريكي يجيد اللغة العربية في فهم الشخصية المصرية والواقع المصري، لأن ذلك يترتب عليه إساءة تقدير من القوة العظمي الوحيدة في عالم العقود الأولى من القرن العشرين، لدولة ليست فقط ذات تاريخ حضاري عريق، وإنما أيضاً لها دور مهم في أربعة محاور هي المحور العربي والمحور الأفريقي والمحور الإسلامي والمحور الدولي، وكل محور من هذه المحاور يحتوي على قضايا عديدة تؤثر في السياسة الدولية.
ولعلني أشير إلى ثلاث وقائع منها تحول مصر نحو الاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية في منتصف الخمسينات من القرن الماضي، عندما أخطأت السياسة الأمريكية في فهم مصر عبدالناصر وتصورت أنه يمكنها الضغط على مصر لبناء السد العالي، والمثل الثاني عندما أخطأت السياسة الأمريكية في فهم مشاعر الشعب المصري والجيش المصري بعد هزيمة عام 1967 وتصورت أن مصر أصبحت جثة هامدة، وجاءت المفاجأة في حرب أكتوبر1973، وثالثها أخطاء سفيرة الولايات المتحدة سكوبي في قراءة الواقع المصري والغضب المصري ضد نظام مبارك ومساعيه لتوريث السلطة، وكذلك في خطأ السفيرة التي أعقبتها، وهي باترسون، عندما تصورت أن فكر الإخوان المسلمين سوف يسود في مصر، ولذا فوجئت هاتان السفيرتان بثورة 25 يناير2011 ثم ثورة 30 يونيو 2013.
والمستشرقون والدبلوماسيون الأمريكيون ليسوا الوحيدين الذين يقعون في الأخطاء في فهم الشخصية المصرية، بل بعض الإخوة العرب والفلسطينيين أيضاً يقعون في أخطاء مماثلة، خذ على سبيل المثال المقاطعة العربية لمصر بعد معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، ثم إدراكهم أن ما فعله السادات كان عين الصواب، ولكن بعد سنوات ضاع فيها على العرب وعلى الفلسطينيين الكثير من الوقت والكثير من المغانم في عملية السلام، كذلك أخطاء حركة حماس في الخلط بين الشعب المصري وحكومة الإخوان المسلمين ولذلك ارتمت في أحضانها.
بل إن بعض المصريين أنفسهم يقعون في الفهم الخاطئ للشخصية المصرية مثلما حدث مع الرئيس مبارك تحت تأثير أسرته في موضوع الوراثة ومع الإخوان المسلمين في قضية الاستحواذ والتمكين والإقصاء عندما وصلوا للسلطة. ولعل مرجع الكثير من الأخطاء عدم قراءة التاريخ المصري العريق وعدم فهم سيكولوجية الشعب المصري ونظرته لنفسه، ونظرته للدوائر السياسية الجيواستراتيجية التي يعمل في إطارها.
ولقد كتبت في دراستي عن هوية مصر تحليلاً للقوى السياسية في المجتمع المصري والذي صدر في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، كما كتبت في كتابي المعنون «الاستراتيجية والدبلوماسية والبروتوكول» تعريفاً لمفهوم الدبلوماسية من وجهة نظري وهي «إن الدبلوماسي هو مبعوث حضارة إلى حضارة أخرى»، ومن ثم فإذا لم يفهم الدبلوماسي حضارته ويفهم حضارة الدولة المرسل إليها يقع في الكثير من الأخطاء التي تؤدي أحياناً إلى كوارث في علاقات الدولتين، من هنا أهمية فهم الحضارات. ومن ثم كتبت في كتابي عن النظام السياسي في البحرين الإصلاح في إطار الهوية أن البحرين كدولة حضارية وبموقعها الاستراتيجي داخل الخليج العربي فهي معرضة للرياح القادمة من الشرق والقادمة من الغرب والقادمة من أعالي البحار، وعليها أن تأخذ هذه الرياح والتوجهات جميعاً في حسبانها عند اتخاذ القرار السياسي.
ونختتم هذا الاستعراض عن دور السفراء بما توصلت إليه من واقع خبرتي وممارساتي وهو التعريف الذي آمنت به وطبقته في ممارساتي، وهو أن الدبلوماسي شخص صادق وأمين يرسل من دولته لدولة أخرى ليكون رسولاً ذا مهام ثلاث أولها أنه مبعوث حضارة لحضارة أخرى، ومن ثم فإن عليه دراسة حضارة بلاده وحضارة الدولة الموفد إليها والتعبير عن القواسم المشتركة بينهما ليكون رسولاً حقيقياً يحسن العلاقات ويدعمها في فترة عمله، وينصح في هدوء لدولته وإذا لزم الأمر وسنحت الفرصة، للدولة المعتمد لديها بعيداً عن الإعلام وبريقه، فيما يقدم من نصائح، ولكنه يستفيد من الإعلام في نقل أفكاره وفي التعبير عن مصالح الدولتين وتعميقها.
وثانيها أنه يحرص على التعلم ونقل تجارب الدول الأخرى لبلاده فهو يرتبط ارتباطاً وثيقاً بدبلوماسية التنمية، وثالثاً أنه يدافع عن مصالح وطنه ومواطنيه في الخارج ويبني جسور التفاهم مع قوى المجتمع الذي يعيش فيه بعيداً عن التدخل في شؤونه الداخلية أو الانحياز لفريق أو حزب ضد آخر. بل ينبغي على السفير أن يظل على الحياد تجاه القضايا الداخلية أو القوى السياسية فهو من الناحية الرسمية مبعوث لدى حكومة ومن ثم ممارساته ينبغي أن تكون محكومة بهذا الإطار الرسمي دون أن تكون قاصرة عليه.
إن السفير يعبر عن مصالح بلاده دون المساس بمصالح الدولة الموفد إليها، وهذا هو النمط الجديد في المهام الدبلوماسية والذي أنصح به شباب الدبلوماسيين أنه سفير حضارة ومناضل ومدافع عن مصالح بلاده مهما كانت وجهة نظره في تلك السياسة المطلوب منه تنفيذها، وهو في نفس الوقت أمين في نقل وجهات النظر بدقة وموضوعية، وأيضاً هو كريم في الضيافة والتعامل مع المجتمع وقواه السياسية أو مع الزائرين من بلاده، كل هذا يمثل أعباء مالية على السفير ولكنها أعباء ترتبط بمهامه ومسؤولياته الرسمية مادام قبل المنصب فعليه أن يضحي من أجله.
إن هذا كله يمكنه أن يعد تقاريره وتقديراته لبلاده بطريقة علمية سليمة بدلاً من التقديرات الخاطئة المستمدة من قطاعات معينة في المجتمع تغرر به لمصالحها الخاصة. ومن ثم يكتب تقارير خاطئة ويوقع بلاده في مشكلات مع الدول المضيفة. إن دقة السفير في كتابة التقارير من أهم الأمور التي يجب أن يتعلمها كل دبلوماسي، كما إن عليه أن يتعلم مناهج التحليل السياسي، ومنهج دلالات المصطلحات والألفاظ Semantics حتى لا يقع في المبالغة في تقييم ما يذكره الطرف الآخر ويبني تقديرات خاطئة. إن على السفير أن يتخلى عن مفهوم الحب والكره للدولة التي يعمل بها وأن يكون متأقلماً ومتناغماً مع نبض المجتمع ويحافظ على توازنه وحياده ومن ثم يستطيع أن يستخلص النتائج السليمة في تحليلاته.
ختاماً؛ نقول إن التحاور الدبلوماسي مع أجهزة الإعلام من لوازم العمل الدبلوماسي، ولذلك فإن ما يطلق عليه الدبلوماسية العامة تتعلق أساساً بالإعلام والعلاقات العامة، والتواصل الاجتماعي والمجتمعي في آن واحد.