الملاحظات هي على هامش دراسة معنونة «نحو تطوير نموذج كفاءة متعددة المهام للعمل الدبلوماسي لوزارتي خارجية مصر والبحرين»، والدراسة حاصلة مؤلفتها الدكتورة ندى مجاهد على درجة الدكتوراه من كلية ماسترخت للإدارة في هولندا.
وهي دراسة علمية دقيقة وتفصيلية ومتخصصة في مجال الإدارة وبناء النموذج المتعدد الكفاءات والمهام في الموارد البشرية. وقد أتيح لي الاطلاع عليها، وبالنظر لتخصصي في المجال الدبلوماسي وليس في علوم الإدارة أو الموارد البشرية، لم أستطع استيعابها استيعاباً كاملاً ولهذا عنونت مقالي هذا بأنه ملاحظات عابرة.
الملاحظة الأولى: تتعلق باختيار دولتين لنماذج «دراسة حالة» للموضوع إحداهما دولة متوسطة هي مصر بدبلوماسية عريقة ترجع لعصر الفراعنة، بل إن أول وثيقة دولية يمكن القول إنها تؤرخ للعلاقات الدولية هي معاهدة سلام بعد معركة قادش وقعت عام 1258 قبل الميلاد بين حاتوليس الثالث ملك الحثيين وبين رمسيس الثاني فرعون مصر، وهي معاهدة تقوم على التحالف بين الدولتين ضد الأعداء الخارجين وضد التمرد الداخلي، أما الدولة الثانية فهي مملكة البحرين وهي دولة عريقة حضارياً ولكنها حديثة سياسياً كدولة استقلت عام 1971، ومع هذا اضطلعت دبلوماسيتها بأدوار فريدة بدأت بمساعيها لضمان استقلال الدولة وسيادتها ثم استمرت تواصل تصحيح الصورة غير الدقيقة عن هذه الدولة الصغيرة الفتية النشطة على الساحة الدولية، فالتشابه في العراقة التاريخية إلى حد كبير، وفي التطلعات الاستعمارية للسيطرة على هاتين الدولتين عبر العصور، وفي التحديات التي يواجهها كل منهما، وفي نشاط دبلوماسيتهما بلا كلل أو ملل لتحقيق طموحات شعبيهما، لكن بالطبع كما ذكرت الباحثة ثمة فروق بين الدولتين، وهي فروق من وجهة نظري تجعل بناء نموذج للكفاءة الدبلوماسية بمثابة تحدٍّ علمي وبحثي، ولعل أبرز الفوارق في العمق التاريخي لدبلوماسية كل منهما، وحجم السكان والمساحة، الموقع الجيواستراتيجي والاستمرارية الحضارية، ومع ذلك فالهدف البحثي واحد بل مشترك وهو السعي لبناء نموذج دبلوماسي يقوم على الكفاءة والقدرة والتأهيل الفني والعملي لمواجهة التحديات القائمة والمتجددة.
الملاحظة الثانية: الدراسة باعتبارها بحثاً علمياً متخصصاً، فإن الدكتورة ندى استعرضت فكرة النموذج، وأشهر من طوروا هذا المفهوم علماء أمريكيون، كما عرضت الباحثة للدراسات السابقة على دارستها هذه في هذا مجال مفهوم الكفاءة والقدرات والتعريفات المتعددة عن الدبلوماسية. ولقد أعجبني التعريف الذي اقتبسته لأنه يتسم بالبساطة والشمول في آن واحد «إن الدبلوماسية فن تحقيق تقدم وتطور للمصالح الوطنية للدولة، عن طريق التبادل المستمر، وتواصل المعلومات بين الأمم والشعوب»، وهذا التعريف يركز على الطابع العملي للدبلوماسية ويعكس التطور الحديث في علوم الاتصال، ومن ثم فهو ابتعد عن التعريفات المتعددة للدبلوماسية التي كتبها مؤلفون كثر من أوروبا، بل حتى التعريف الذي ابتكرته شخصياً في كتابي عن الدبلوماسية من واقع ممارستي الشخصية، والذي ركز على مفهوم التواصل والتعبير والتفاعل الحضاري، وهو مسألة مهمة وتناولتها الباحثة في مجال تحديد سمات الدبلوماسي.
الملاحظة الثالثة: تتعلق بمنهجية البحث وأساليبه في الدراسة؛ فقد استخدمت الباحثة مناهج بحثية عديدة، كما لجأت للاستبيان والمقابلات الشخصية للدبلوماسيين في مصر والبحرين، واختبرت بالمقاييس العلمية الآراء والأفكار التي قيلت لها وطورت النموذج عبر عدة مراحل للتحقق من المصداقية في ما حصلت عليه من معلومات وأفكار حتى تبعد عن التحيز الطبيعي أو اللاشعوري ممن استطلعت آراءهم.
كما استخدمت في التحليل المفاهيم المعروفة في المدرسة السلوكية الأمريكية، وفي مدرسة الجودة؛ وهي مدرسة أصولها أمريكية كما ذكرت الباحثة، لكنني أضيف أن اليابانيين هم الذين تفوقوا في بلورة هذه النظرية وتطبيقها منذ السبعينات في القرن الماضي قبل الولايات المتحدة، وخاصة في مجال الإدارة الصناعية، بل الذين تميزوا بدرجة أكبر هم السنغافوريون، وهذا يدعونا أن ننصح الدول الصغيرة ذات الإمكانات المحدودة والطموحات الكبيرة مثل مملكة البحرين لأن تدرس بعمق النموذج السنغافوري، ليس فقط في مجال التنمية بل في مجال الدبلوماسية أيضاً وفي مجال التوافق والتناغم بين مكونات المجتمع الديموغرافية والعرقية والدينية وبناء نموذجها الديمقراطي الخاص بها الذي يختلف عن النموذج الغربي التقليدي.
الملاحظة الرابعة: تتعلق بهيكل وبناء القدرات الفاعلة للأفراد و قياس الكفاءة؛ تذكر الباحثة في هذا الصدد ثمانية معايير وهي: القدرة على التكييف، المرونة، الثقة بالنفس، القدرة على تحمل الضغوط والتوترات، القدرة على ضبط النفس، الحركة المستدامة، القدرة على المبادرة، الصحة البدنية والعقلية. وهذه المعايير أعادت لذاكرتي سنوات بعيدة؛ ففي بداية عملي الدبلوماسي كانت وزارة الخارجية تستعين بالخبرات الدبلوماسية المخضرمة من المصريين، وكان أحد هؤلاء يركز دائماً على أن الدبلوماسي الذي لا يستطيع أن يتكيف مع مختلف البيئات يكون غير مؤهل للعمل الدبلوماسي الصحيح وينصحنا بضرورة التكيف والقدرة على ضبط النفس، والحركة المستدامة، والقدرة على المبادرة. ولهذا فالدبلوماسي في حركة دائبة عندما يكون في حفل استقبال، ولا يجب أن يظل واقفاً مع شخص أو مجموعة أشخاص طوال الحفل، فإنه في هذه الحالة يتحول إلى دبلوماسي أستاتيكي وليس لديناميكي فعال. إنه مثل النحلة يجب أن ينتقل بسرعة بين الزهور ليمتص الرحيق من التنوع والتعدد ليثبت وجوده وحضوره الشخصي والرسمي كممثل لدولته. ولاشك أن هناك مواصفات أخرى للدبلوماسي عرضت لها الباحثة في مختلف فصول الدراسة ومن الصعب إحصاؤها كاملة، فالدراسة ثرية بالمعلومات المفيدة والدقيقة والتفصيلية.
الملاحظة الخامسة: ما أطلقت عليه الباحثة مجموعة الصفات الخاصة بالتواصل بين الحضارات، وهذا هو موضوعي المفضل، ولن أتطرق إليه، وإنما أشير لما ذكرته الباحثة بضرورة أن يكون الدبلوماسي متفتح الذهن والعقل على الحضارات الأخرى، وأن يعمل على بناء صورة ذهنية عن وطنه لديه أولاً ثم ينقلها للآخرين بعد ذلك، فيكون له مصداقية حقيقة، وأن يبلور هوية ثقافية تحقق التعريف وتنمية الثقافة التي تتعلق بوطنه في إطار العالم المتنوع.
ولا أجد ما أختتم به هذه الملاحظات العابرة إلا ثلاث كلمات:
الأولى: إن الدبلوماسية مسألة بالغة الصعوبة ومهنة معقدة، وتتطلب الكثير ممن يسعى لأن يعطيها حقها، فهي تحتاج لكثير من الجهد ومن المال ومن التضحية، ولهذا دائماً نكرر المقولة بأن الدبلوماسي الذي يقف منعزلاً في حفل الاستقبال لا يصلح لهذه المهنة لأن الانطواء نقيض الدبلوماسية، وكذلك الدبلوماسي الحريص على المال لا يصلح للتواصل مع الآخرين، والدبلوماسي الذي لا يقرأ باستمرار ويتابع المستجدات وهكذا.
الثانية: التهنئة من أعماق القلب للباحثة القديرة الدكتورة ندى مجاهد لهذه الدراسة القيمة والعميقة والتي تتعلق بـ3 علوم هي: الدبلوماسية، الموارد البشرية، والإدارة. وكل منها يحتاج لمؤلفات. ولكن براعة الباحثة أنها استوعبت الكثير من هذه المجالات وأخرجت لنا رحيقاً هو عسل مصفى من العلم والمعرفة والخبرة في دراستها هذه.
الثالثة: إن الكتاب صدر باللغة الإنجليزية، وهو متخصص في مجاله، وأتمنى على وزارة الخارجية ووزيرها النشط أن يوجه أحد المتخصصين ليتولى ترجمته إلى اللغة العربية لكي تتم الاستفادة منه على أفضل صورة، وربما يمكن لجامعة البحرين أن تتولى عملية الترجمة هذه، لأن الكتاب ليس فقط في الدبلوماسية بل في الموارد البشرية والإدارة، وكذلك تعميم تدريسه ولو في الإطار العام للدبلوماسيين من مختلف الدرجات، لكي تتعمق معرفتهم بالدبلوماسية وتطورها الحديث، وذلك لأن العلم لا يتوقف عند المعلومات التي درست في الماضي، فكافة العلوم متجددة ومتطورة وأصبحت متداخلة بصورة مذهلة.