من درس العسكرية لابد أن يعرف أنه ليس بالضرورة أن انسحاب الخصم من خطوط التماس يعني انتهاء المعركة، أو يعني إقراره بالهزيمة والكف عن المهاجمة والاعتداء، بل يعني أنه يعيد ترتيب صفوفه من أجل الإعداد لهجوم جديد!
ويبدو أن خصمنا الإرهابي يعلم نقاط ضعفنا، وهي تهافتنا على سرعة تحقيق مكاسب محدودة، وقصر نفسنا في المعركة وحاجتنا إلى الشعور بالهدوء حتى وإن كان شعوراً وهمياً، فيمنحنا هذا الشعور بانسحاب تكتيكي من الشارع.
لذا فإن التباطؤ في تنفيذ توصيات المجلس الوطني لا يعد خطاً استراتيجياً فحسب، بل يعد خيانة للإرادة الشعبية، نقولها بعلو الصوت، من يعطل تنفيذ التوصيات لا مكان له بيننا، واعتبار تلك التوصيات مجرد ورقة تفاوضات نلوح بها حين نتعرض لضغط ونضعها في الأدراج حين الشعور بعدم الضغط، سياسية أقل ما يقال عنها أنها جريمة في حق الوطن، وأنها ستعيد لنا الإرهاب أكثر قوة أو أكثر فتكاً.
التوصيات لا تعني بتخفيف حدة الحوادث الأمنية فحسب، بل تعني بتجفيف منابع الإرهاب إلى غير رجعة، كما إنها غير معنية بالخروج من الأزمة الحالية فحسب وإرضاء الأمريكان أو نجاح الحوار أو أي مكسب تكتيكي محدود، بل معنية بردم بركان الإرهاب الذي يثور لنا كل عدة سنوات.
فإن كان التباطؤ في تنفيذ التوصيات راجعاً لضغوط أجنبية فإن تلك الضغوط هي في صف تلك الماكينة منذ اليوم الأول، وعلينا أن ننتبه هنا إلى أن تلك الضغوط -إن وجدت- فإنها لا تسعى إلى خلخلة الموقف الشعبي الرسمي فحسب، بل تسعى إلى ما هو أخطر من ذلك بكثير، إنها تسعى إلى توليد شعور شعبي بالاستياء المضاد للسلطة، حين يرى أن الانفجار الذي حصل في الرفاع تداعى له الجميع، في حين أن الانفجار الذي حصل في السيف أو في البديع تزامن مع تراخي وبطأ تنفيذ بقية التوصيات!
إن المقارنة بين حالة الاستنفار التي حصلت عند قيادات الدولة حين وصل الانفجار في الرفاع مع حالة الاسترخاء التي نراها والانفجارات تقع في أماكن أخرى بإمكانها أن تخلق حالة من السخط والتذمر، ومن نصح بتراخي اليد عن التنفيذ الفوري لا يمكن أن يريد خيراً بالبحرين أو أن قصر نظره لا يجعله يرى التبعات السلبية على الجوانب الأخرى.
ثانياً؛ إن استخدام استراتيجية تجفيف منابع الإرهاب كورقة تفاوضات، خطأ استراتيجي قاتل وكبير تقع فيه السلطة مقابل مكاسب تكتيكية، المصيبة أنها حتى في استخدامها كورقة تفاوض تستخدمها بشكل خاطئ، فهي تتنازل عنها بسرعة البرق دون مكاسب، كما يحدث كل مرة، وذلك بسبب قصر النفس وعدم «طولة» البال!!
التوصيات عبارة استراتيجية شاملة تهدف لتجفيف منابع الإرهاب لتخليص المجتمع البحريني من إرهاب جثم على أنفاسنا لعشر سنوات حين تخاذلت الدولة عن القيام بمسؤوليتها، وليست مجرد ورقة تسعى لتخفيف حدة الحوادث الأمنية لأيام معدودة.
فهل يعقل أن يومين من الهدوء الأمني النسبي جعلنا نتراخى في تنفيذ التوصيات؟ هل يعقل أن نرهن مستقبل الدولة ومستقبل الأجيال لمجرد تكتيك ميداني تمارسه ماكينة الإرهاب وهي تضحك علينا؟ أم يجب أن تقع ضحية من الرفاع حتى «نشتطت» من جديد؟!
واضح أننا لا نفكر أبعد من أنوفنا وتهافتنا على خلق شعور وهمي بالأمان راجع إلى قصر النفس مما يجعلنا نصدق بأن الهدوء النسبي الذي عقب الجلسة هو حالة دائمة، ونرخي الحبل ونركن للهدوء ونعطل استراتيجية شاملة تقطع دابر الإرهاب مقابل وهم غير حقيقي ومكسب ميداني محدود الكاسب.
ماكينة الإرهاب لديها هدف استراتيجي بعيد المدى وتعمل علناً وبأريحية منذ عشر سنوات بنفس طويل، وأسست لها أذراعها السياسية والحقوقية والإعلامية والدينية ومليشياتها العسكرية وهي تنظيم دولي، ومجرد انسحاب مليشياتها من الشارع ليومين وتخفيف حدة التحريض الإرهابي من ذراعها الدينية في خطبة واحدة واختفاء المقالات التحريضية لأسبوع لا يعني أنها تخلت عن أهدافها الاستراتيجية، أو أن تلك الأهداف قد تغيرت أو حتى أجلت، بل هو مجرد تكتيك لإعادة ترتيب الأوراق ولتخفيف الضغط عليها ولجس النبض حول جدية الدولة لا أكثر ولا أقل.
من درس العسكرية يعلم أن هزيمة أي جيش تبدأ من فصله وعزله عن مواقع وطرق الإمداد، وجيش الإرهاب انسحب من الصفوف الإمامية فحسب لإعادة ترتيب طرق ومواقع إمداده من جديد بعد أن شعر بالخطر على تلك الطرق أكثر من شعوره بالخطر على صفوفه الأمامية، ألا ننتبه؟
إن البحرين اليوم في أقوى حالتها لوجود حالة استثنائية توحد فيها الموقف الشعبي مع الموقف الرسمي البحريني مع الموقف الدولي، وهذه فرصة مواتية لن تتكرر، أعيدها مرة أخرى لن تتكرر، لمواجهة أكثر المخاطر تهديداً على كيان الدولة ووجودها منذ نشأتها قبل قرنين إلى الآن، وإعادة مسار الديمقراطية لوضعه الصحيح، وهذا التراخي في تنفيذ تلك التوصيات سيضيع هذه الفرصة الثمينة التي لن تتكرر، وحينها لن يسامح شعب البحرين من ضيع البلد.