لا شك أن جانباً كبيراً من العبقرية الشريرة لنظام بشار الأسد يكمن في قدرته الهائلة على توظيف الثغرات العديدة في ثوب المجتمع الدولي لصالحه وتوسيع خرقها بشراسة، فقد بنى الأسد له مخزوناً من سمعة العنف كانت كافية لتهجير أهالي بانياس، وهم الجيب السني الوحيد الباقي في وسط منطقة علوية واسعة على ساحل البحر المتوسط؛ بل إن مناصري النظام من حزب الله لم يترددوا في الاحتماء بتلك السمعة في قصف «القصير» بمواد كبريتية بعد الاستجابة الرخوة من العالم حيال استخدام جيش الأسد للسلاح الكيماوي. حقيقة أخرى تقول إن أسباب بقاء نظام الأسد على قدميه حتى الآن لا يكمن في عوامل دولية فحسب؛ بل إن للمقاومة والمعارضة والجيش الحر وجبهة النصرة يداً في ذلك البقاء، فقد كانت الأهداف عامة في سوريا منذ البداية، وبالترتيب التالي:
- دحر الجيش السوري النظامي عسكرياً.
- الإطاحة ببشار الأسد من السلطة.
- إقامة نظام حكم ديمقراطي جديد.
وهنا كان الخطأ؛ فقد ظهر عدد من الأهداف العملياتية الميدانية التي لا تتعدى قيمة إنجازها ميدان المعركة وأخذت صفة الاستراتيجية دون أن تستحقها على حساب الهدف الأسمى الذي يؤدي تحقيقه إلى إنهاء الأزمة برمتها، فدحر الجيش السوري هدف عملياتي، وما كان يجب أن يكون النقطة المحورية حتى لا تتطور لحل وتسريح الجيش العربي كما حدث في العراق، بل كان ينبغي تكريس الهدف الرئيسي والتركيز على إقامة نظام حكم ديمقراطي جديد، وكان ينبغي تصنيف دحر الجيش النظامي وإطاحة بشار الأسد من السلطة على أنهما نتائج ضمن المستويات الثانوية المساندة.
لكن غياب هذه الحقائق أدى إلى تعرية كل طموحٍ توهمي للثوار أمام تجمعات سورية أخرى، ولن نلوم المعارضة السورية بقسوة؛ فقد كانت هناك نزعة عبر التاريخ في القفز بمفهوم فوق الآخر، ورفع المفهوم العملياتي إلى المستوى الاستراتيجي.
ومن الأمثلة التقليدية المعروفة في صراع البعدين؛ ما طبقه هتلر ضد فرنسا بالحرب الخاطفة في الحرب العالمية الثانية حين مزج جنرالاته قدرة المدرعات والقوة الجوية لخلق معركة حاسمة بتكتيك «الحصار والإبادة» في عملية «Operation Sichelschnitt»، ومع أن هذا المفهوم العملياتي حظي بالنجاح عبر حصار الجيش الفرنسي وقصم ظهره؛ إلا أن تبنيه كمفهوم استراتيجي لم يحقق أهداف المانيا العليا، ولم يخلق التأثيرات التي كان هتلر يسعى إليها، فلم يضع نهاية للحرب ولم يعزل انجلترا، ولم يخلق التوسع والرفاهية لألمانيا.
ويرى المحلل «هاري ياغر» أن عقيدة الصدمة والترويع «Shock and awe» التي نفذها الأميركان عام 2003 ضد نظام صدام حسين قد رُفعت في أذهان بعض مخططي البنتاغون وكأنها هدف استراتيجي، وهذا ما سبب فوضى احتلال العراق وغياب الاستراتيجية لصالح الإجراءات العملياتية، مما أدى لطرد الجنرال المتقاعد جيه جارنر من منصبه وتعيين السفير المتقاعد بول بريمر ليدير الأمور بكارثية أشد، فكان كمن يريد كسر قشرة البيضة بمطرقة تزن 20 كجم. وفي حالات الفهم الخاطئ كهذه؛ فإن المفهوم العملياتي لا يتمتع بالتطور والشمولية اللازمين لتحقيق الأهداف الاستراتيجية، وتعد المفاهيم العملياتية الجيدة شديدة الأهمية لكنها تكون مساندة للمفهوم الاستراتيجي فقط لا بديلاً له.
لقد أضاع الجيش الحر وامتداداته المدنية والعسكرية منطق الاستراتيجيا في حرب الأسد وخلطها مع المستويات العملياتية، بل ورفع الأخيرة بديلاً عنها. والأجدى لهم في هذه المرحلة صياغة الخطوات التي يعملون بها، وتحديد أنماط ومستويات الموارد الضرورية لدعم تلك الاستراتيجية حتى لا يتم نسخ التجربة العراقية وحل الجيش والتقسيم الطائفي.
ومن الموارد الملموسة؛ القوات العسكرية سواء تحت بيرق الجيش الحر أو النصرة أو أية بيارق أخرى. ويعتبر الشعب السوري نفسه نازحاً ومهجراً ومقيماً من وسائل الدعم، فلا يُترك لذئاب مخيمات اللاجئين وعصابات الأحياء المدمرة وشبيحة الأسد. كما إن المعدات من غنائم ومساعدات خارجية أو مشتراة لها نفس أهمية الأموال والمنشآت فلا تدمر انتقاماً ولا تهمل لضباع اللجان الخيرية المزيفة وتجار الحروب المروجين لشعارات زائفة ذات وقع تحرري، فيما يستغلون في الوقت نفسه رغبة ضابط التموين في الجيش الحر. فالمشكلة الأساسية في الموارد الملموسة هي أنها نادراً ما تكون كافية على النحو المرضي، أما الموارد غير الملموسة والتي تمثل إشكالية لكونها غير قابلة للقياس غالباً؛ فتشمل الثقافة التي تدعم شرعية النضال، والإرادة الوطنية الآتية من كل قطاعات الشعب عبر قنوات ديمقراطية، والنيات الدولية الحسنة التي يجب حشدها لنصرة مطالب الشعب السوري. إضافة إلى الشجاعة في اتخاذ قرارات مرة وحاسمة، حتى ولو كانت تعني حل وتشكيل المجالس والحكومات الانتقالية كلما كان ذلك ضرورياً، بل إن التعصب للهدف الأسمى، رغم محاذير استخدامه، يعد من وسائل دعم الاستراتيجية.
صحيح أن الفكر العسكري ذو مرتبة تفسيرية فقط، لا صانعاً للأحداث كصوت الرصاص في الميدان، وصحيح أنه من المستحيل التنبؤ بالمستقبل، لكن من يضع عمله داخل قوالب استراتيجية محكمة الأهداف يمكنه التأثير في المستقبل وتشكيل ملامحه على كل المستويات بدل القتال يوماً بيوم، وما فقدان اليقين الذي ينتهك بوحشية التفاؤل بزوال الأسد ونظامه إلا نتيجة الارتباك في تحديد الأهداف العليا. فرغم أن مبادئ الاستراتيجيا تقول إن كسب المعارك هدف على المستوى العملياتي بينما يعد كسب الحرب هدفاً استراتيجياً؛ إلا أن ثوار سوريا مازالوا يتلقفون كل كسب عملياتي وكأنه قيام نظام حكم ديمقراطي جديد، متناسين أن عليهم الدخول بالتبعات التي لا يزال جارهم العراق يعيشها بسبب تجاوز من أدار أموره لمبادئ بسيطة.
{{ article.visit_count }}
- دحر الجيش السوري النظامي عسكرياً.
- الإطاحة ببشار الأسد من السلطة.
- إقامة نظام حكم ديمقراطي جديد.
وهنا كان الخطأ؛ فقد ظهر عدد من الأهداف العملياتية الميدانية التي لا تتعدى قيمة إنجازها ميدان المعركة وأخذت صفة الاستراتيجية دون أن تستحقها على حساب الهدف الأسمى الذي يؤدي تحقيقه إلى إنهاء الأزمة برمتها، فدحر الجيش السوري هدف عملياتي، وما كان يجب أن يكون النقطة المحورية حتى لا تتطور لحل وتسريح الجيش العربي كما حدث في العراق، بل كان ينبغي تكريس الهدف الرئيسي والتركيز على إقامة نظام حكم ديمقراطي جديد، وكان ينبغي تصنيف دحر الجيش النظامي وإطاحة بشار الأسد من السلطة على أنهما نتائج ضمن المستويات الثانوية المساندة.
لكن غياب هذه الحقائق أدى إلى تعرية كل طموحٍ توهمي للثوار أمام تجمعات سورية أخرى، ولن نلوم المعارضة السورية بقسوة؛ فقد كانت هناك نزعة عبر التاريخ في القفز بمفهوم فوق الآخر، ورفع المفهوم العملياتي إلى المستوى الاستراتيجي.
ومن الأمثلة التقليدية المعروفة في صراع البعدين؛ ما طبقه هتلر ضد فرنسا بالحرب الخاطفة في الحرب العالمية الثانية حين مزج جنرالاته قدرة المدرعات والقوة الجوية لخلق معركة حاسمة بتكتيك «الحصار والإبادة» في عملية «Operation Sichelschnitt»، ومع أن هذا المفهوم العملياتي حظي بالنجاح عبر حصار الجيش الفرنسي وقصم ظهره؛ إلا أن تبنيه كمفهوم استراتيجي لم يحقق أهداف المانيا العليا، ولم يخلق التأثيرات التي كان هتلر يسعى إليها، فلم يضع نهاية للحرب ولم يعزل انجلترا، ولم يخلق التوسع والرفاهية لألمانيا.
ويرى المحلل «هاري ياغر» أن عقيدة الصدمة والترويع «Shock and awe» التي نفذها الأميركان عام 2003 ضد نظام صدام حسين قد رُفعت في أذهان بعض مخططي البنتاغون وكأنها هدف استراتيجي، وهذا ما سبب فوضى احتلال العراق وغياب الاستراتيجية لصالح الإجراءات العملياتية، مما أدى لطرد الجنرال المتقاعد جيه جارنر من منصبه وتعيين السفير المتقاعد بول بريمر ليدير الأمور بكارثية أشد، فكان كمن يريد كسر قشرة البيضة بمطرقة تزن 20 كجم. وفي حالات الفهم الخاطئ كهذه؛ فإن المفهوم العملياتي لا يتمتع بالتطور والشمولية اللازمين لتحقيق الأهداف الاستراتيجية، وتعد المفاهيم العملياتية الجيدة شديدة الأهمية لكنها تكون مساندة للمفهوم الاستراتيجي فقط لا بديلاً له.
لقد أضاع الجيش الحر وامتداداته المدنية والعسكرية منطق الاستراتيجيا في حرب الأسد وخلطها مع المستويات العملياتية، بل ورفع الأخيرة بديلاً عنها. والأجدى لهم في هذه المرحلة صياغة الخطوات التي يعملون بها، وتحديد أنماط ومستويات الموارد الضرورية لدعم تلك الاستراتيجية حتى لا يتم نسخ التجربة العراقية وحل الجيش والتقسيم الطائفي.
ومن الموارد الملموسة؛ القوات العسكرية سواء تحت بيرق الجيش الحر أو النصرة أو أية بيارق أخرى. ويعتبر الشعب السوري نفسه نازحاً ومهجراً ومقيماً من وسائل الدعم، فلا يُترك لذئاب مخيمات اللاجئين وعصابات الأحياء المدمرة وشبيحة الأسد. كما إن المعدات من غنائم ومساعدات خارجية أو مشتراة لها نفس أهمية الأموال والمنشآت فلا تدمر انتقاماً ولا تهمل لضباع اللجان الخيرية المزيفة وتجار الحروب المروجين لشعارات زائفة ذات وقع تحرري، فيما يستغلون في الوقت نفسه رغبة ضابط التموين في الجيش الحر. فالمشكلة الأساسية في الموارد الملموسة هي أنها نادراً ما تكون كافية على النحو المرضي، أما الموارد غير الملموسة والتي تمثل إشكالية لكونها غير قابلة للقياس غالباً؛ فتشمل الثقافة التي تدعم شرعية النضال، والإرادة الوطنية الآتية من كل قطاعات الشعب عبر قنوات ديمقراطية، والنيات الدولية الحسنة التي يجب حشدها لنصرة مطالب الشعب السوري. إضافة إلى الشجاعة في اتخاذ قرارات مرة وحاسمة، حتى ولو كانت تعني حل وتشكيل المجالس والحكومات الانتقالية كلما كان ذلك ضرورياً، بل إن التعصب للهدف الأسمى، رغم محاذير استخدامه، يعد من وسائل دعم الاستراتيجية.
صحيح أن الفكر العسكري ذو مرتبة تفسيرية فقط، لا صانعاً للأحداث كصوت الرصاص في الميدان، وصحيح أنه من المستحيل التنبؤ بالمستقبل، لكن من يضع عمله داخل قوالب استراتيجية محكمة الأهداف يمكنه التأثير في المستقبل وتشكيل ملامحه على كل المستويات بدل القتال يوماً بيوم، وما فقدان اليقين الذي ينتهك بوحشية التفاؤل بزوال الأسد ونظامه إلا نتيجة الارتباك في تحديد الأهداف العليا. فرغم أن مبادئ الاستراتيجيا تقول إن كسب المعارك هدف على المستوى العملياتي بينما يعد كسب الحرب هدفاً استراتيجياً؛ إلا أن ثوار سوريا مازالوا يتلقفون كل كسب عملياتي وكأنه قيام نظام حكم ديمقراطي جديد، متناسين أن عليهم الدخول بالتبعات التي لا يزال جارهم العراق يعيشها بسبب تجاوز من أدار أموره لمبادئ بسيطة.