لماذا يكثف بشار الأسد ظهوره الإعلامي لتكرار عزمه على الترشح للرئاسة بعد انتهاء ولايته الحالية؟ لأنه يرتاب بأن مصيره على رأس النظام ربما يصبح قيد التداول بين الروس والأميركيين. فبالنسبة إليه ضاعت فرصة الحل السياسي الذي يناسبه حين تعذر عقد «جنيف 2» في تموز (يوليو) الماضي في ضوء الدعاية العارمة لـ «انتصاره» في معركة القُصَير. بعدها اتجهت «البروباغندا» الأسدية إلى التركيز على «داعش» (تنظيم «الدولة الإسلامية للعراق والشام») وكأنها المنقذ الذي سيعيد الاعتبار للنظام من خلال الوظيفة الأمنية التي يجيدها.
في لقاء موسع عقد أخيراً في إحدى العواصم العربية وشارك عدد كبير من الموالين والمعارضين، بحضور وإشراف دوليين، كان الحديث «غير السياسي» يدور عن المستقبل، عن المتطلبات العاجلة لإعادة الأوضاع الطبيعية لأن المدن والبلدات كافة لم تعد صالحة للعيش، عن رفع الدمار وإعادة الأعمار، وعن الحفاظ على المؤسسات «تحت شرعية الأمم المتحدة».. ورغم أن الكلام لم يتطرق إلى أي سلطة ستتولى هذه الأعباء الجسيمة إلا أن ما لم يقله أحد صراحة كان واضحاً في الأذهان: ليس السلطة الحالية، بكل تأكيد. تجاوز هذا اللقاء النظام والمعارضة على السواء، لكن «داعش» حضرت في النقاش. إذ أفاد قادمون من «مناطقها» أنها تستقطب في شكل رئيسي المخبرين السابقين للنظام، الذين اختفوا بعد سيطرة «الجيش الحر» ثم ظهروا فجأةً حين جاء «الداعشيون» وأرخوا لحاهم وأعلنوا توبتهم واستأنفوا النشاط. وقالوا إن «داعش» تشيع خوفاً يذكر بأيام النظام، وتقلده بطرائق الاحتجاز والتعذيب، حتى أن عناصرها يمارسون التنكيل والقتل الميداني، كما يفعل «الشبيحة».
وحين لا يكون «القاعديون» هم مَن يتقدمون لأداء خدمة للنظام، ينبري أكراده «الأوجلانيون» للمهمة، إذ إن ميليشيا «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردي التابع لحزب العمال الكردستاني أقدمت على طرد مقاتلي «داعش» و«جبهة النصرة» و«أحرار الشام» من بلدة اليعربية الحدودية المجاورة للعراق. وعدا سيطرتها على موقع إنتاج النفط هناك، واستكمالها السيطرة على محافظة الحسكة، فقد تسببت بتهجير الآلاف من العرب. وتبين أنها تلقت تسهيلات من الجانب العراقي، الذي سبق أن وفر تسهيلات مماثلة لآلاف الإيرانيين والعراقيين الذين دخلوا سورية للقتال إلى جانب النظام وتحت الإمرة الإيرانية، كما غض النظر عن تغلغل مئات «القاعديين» ليرفدوا «داعش» في مناطق المعارضة السورية.. كل ذلك يلفت الى خطط للنظام يأمل بأن تمكنه من توريط الأتراك من جهة، ومن ضرب وتفكيك مواقع للمعارضة (في الشمال) أو عزلها (في الغوطتين). من جهة أخرى، وذلك من طريق توظيف مكونات اجتماعية سبق أن جندها لمصلحته أو باستقدام «مكونات» هجينة تابعة لـ «القاعدة». ثم أن النظام لايزال عازماً على استخدام ورقة الأكراد لطرح مشروع التقسيم.
إذا رُبطت هذه الخطط بمواصلة الإعداد لمعركة القلمون (شمال شرقي دمشق)، فما الذي ترمي إليه؟ لا بد من التذكير بأن النظامين السوري والإيراني اعتمدا منذ نهاية آذار (مارس) 2011 استراتيجية قوامها أن الأمر يتعلق بـ «مؤامرة على المحور الممانع» ولا بد من هزمها بأي طريقة. ومنذ أوائل 2013 لم يعد ممكناً التمييز بين اتباع النظامين، بل أن بلوغ نظام الأسد نقطة نقطة العجز عن تنفيذ خطط «الحسم» أبرز في الشهور الأخيرة ميليشيا «أبو الفضل العباس» الإيرانية، التي ذاع سيط وحشيتها أخيراً بعد مجازر الذيابية (جنوب دمشق)، لكن العديد من عناصرها وقع في أسر مقاتلي المعارضة في مناطق اخرى. قبل ذلك سُلطت الأضواء على ميليشيا «حزب الله» خصوصاً بعد معركة القُصَير، ورغم تسريب الحزب أنه انسحب أو على الأصح سحب جزءاً من قواته من سورية إلا أن التحضيرات الجارية لمعركة القلمون كشفت كذب هذا الادعاء.
ما الهدف إذاً؟ لا علاقة للقلمون بالتحضير لـ «جنيف 2» ولا داعي لسؤال خبراء عسكريين أو قريبين من «حزب الله»، فأي دمشقي يعرف مدينته ولايزال مقيماً فيها سيقول لك فوراً: أولاً، أن هذه المعركة ستكون إيرانية بكل تفاصيلها. ثانياً، أنها ترمي إلى وقف النزيف الذي تتعرض له الفرقة الثالثة المتمركزة في هذا القطاع لأن عديدها هبط من 17 ألفاً إلى 9 آلاف بسبب الهروب والانشقاقات. ثالثاً، أن النظام وحلفاءه يريدون هذه المعركة، خلافاً لكل مظاهر الثقة التي يبدونها في حرب الغوطتين، بسبب قلقهم على وضع دمشق وتحسباً لأي ضغط مباغت. لذلك، رابعاً، يراد إقفال آخر مسالك المساعدات العسكرية التي تصل إلى المعارضين في الغوطتين، وتحديداً من لبنان... لكن هذا الدمشقي، عادياً كان أم أكاديمياً، سيضيف أن الأخطر، خامساً، أن معركة القلمون استكمال لمعركة القصَير في عملية «ترسيم حدود الدولة العلوية» رغم أن النظام لم يتلق أي إشارة دولية مطمئنة بشأن هذه «الدولة».
إلى ذلك، تحاول هذه التحركات إيجاد ردود ميدانية واضحة على تساؤلات القوى الدولية في سياق التحضير لـ «جنيف 2». وأهمها ما كرره بشار الأسد في مقابلاته، وهو أن النظام جاهز للتفاوض لكن الطرف الآخر غير موجود أو يقتصر على «إرهابيين»، وإذا أريد حصره بـ «الائتلاف» فإنه يعاني من تفكك روابطه مع الداخل، وفي هذه الحال يمكن إشراكه في «جنيف 2» لا كممثل وحيد للمعارضة بل كواحد من أطيافها بمن فيها المعارضة الداخلية المدجنة شريكة النظام. وإذ أوحى رفض «المجلس الوطني السوري» المشاركة في «جنيف 2»، وكذلك بيانات الداخل عن نزع شرعية التمثيل من «الائتلاف»، بانقسام المعارضة حول المفاوضات المزمعة، إلا أن هذه المواقف ساهمت عملياً في تصليب الموقف الذي حمله «الائتلاف» الى اجتماع «أصدقاء سورية» في لندن. إذ جاء معبراً عن معارضي الداخل، خصوصاً باستبعاده أي مساومة حول «تنحي الأسد». ولعل السفير روبرت فورد الذي قصد إسطنبول ساعياً إلى إقناع المعارضة بعدم تفويت فرصة التفاوض اصطدم بممانعة لها أساس صلب: ما الذي قدمته أمريكا لنا كي تضغط علينا، خدعتنا وخذلتنا وتركت أهلنا يذبحون ومدننا تدمر، عرقلت وتعرقل تسليح «الجيش الحر»، ساهمت في شكل غير مباشر في انتشار «القاعدة»، وعملت على التضييق علينا مالياً وحتى إغاثياً، لا نحن ولا أي من «الأصدقاء» نعرف على ماذا تتفاهم أمريكا مع روسيا، وتريدنا أن نذهب إلى تسوية رسمها النظام، لا أحد في المعارضة يستطيع التفاوض وفقاً لهذه الظروف والمعطيات. لم يكن اجتماع «أصدقاء سورية» في لندن مريحاً للأمريكيين. أدرك جون كيري خلاله أن الجميع، أوروبيين وعرباً وسوريين، لا يشعرون بثقة حيال تداعيات التفاهم الأمريكي - الروسي على الأزمة، كما ظهرت في معالجة ملف السلاح الكيماوي، ولا حيال التقارب الأمريكي - الإيراني الذي يثير قلق دول الخليج وشكوك بعض الأوروبيين. غير أن موقف «الائتلاف» السوري كان الأكثر تعبيراً عن واقع شاء الأمريكيون تجاهله، وهو أن المعارضين الحقيقيين على الأرض (لا «داعش» ولا «جبهة النصرة» ولا أشباههما) يشعرون بأن «الأصدقاء»، مختزلين في أمريكا، تسببوا بمزيد من المآسي لهم ويتصرفون كما لو أنهم يريدون للمعارضة أن تهزم وتستسلم أمام النظام. لذلك ينصح مساعدو كيري بتأجيل «جنيف 2» أو حتى بإلغائه، لأنهم أدركوا أن الروس يقودون الموقف الأمريكي إلى ما أراده الأسد منذ البداية: تسوية دولية مع النظام الذي قدم السلاح الكيماوي دفعة أولى من ثمنها، أما الثانية فقد تكون بتعهده ضرب أتباع تنظيم «القاعدة».
عن صحيفة «الحياة»
في لقاء موسع عقد أخيراً في إحدى العواصم العربية وشارك عدد كبير من الموالين والمعارضين، بحضور وإشراف دوليين، كان الحديث «غير السياسي» يدور عن المستقبل، عن المتطلبات العاجلة لإعادة الأوضاع الطبيعية لأن المدن والبلدات كافة لم تعد صالحة للعيش، عن رفع الدمار وإعادة الأعمار، وعن الحفاظ على المؤسسات «تحت شرعية الأمم المتحدة».. ورغم أن الكلام لم يتطرق إلى أي سلطة ستتولى هذه الأعباء الجسيمة إلا أن ما لم يقله أحد صراحة كان واضحاً في الأذهان: ليس السلطة الحالية، بكل تأكيد. تجاوز هذا اللقاء النظام والمعارضة على السواء، لكن «داعش» حضرت في النقاش. إذ أفاد قادمون من «مناطقها» أنها تستقطب في شكل رئيسي المخبرين السابقين للنظام، الذين اختفوا بعد سيطرة «الجيش الحر» ثم ظهروا فجأةً حين جاء «الداعشيون» وأرخوا لحاهم وأعلنوا توبتهم واستأنفوا النشاط. وقالوا إن «داعش» تشيع خوفاً يذكر بأيام النظام، وتقلده بطرائق الاحتجاز والتعذيب، حتى أن عناصرها يمارسون التنكيل والقتل الميداني، كما يفعل «الشبيحة».
وحين لا يكون «القاعديون» هم مَن يتقدمون لأداء خدمة للنظام، ينبري أكراده «الأوجلانيون» للمهمة، إذ إن ميليشيا «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردي التابع لحزب العمال الكردستاني أقدمت على طرد مقاتلي «داعش» و«جبهة النصرة» و«أحرار الشام» من بلدة اليعربية الحدودية المجاورة للعراق. وعدا سيطرتها على موقع إنتاج النفط هناك، واستكمالها السيطرة على محافظة الحسكة، فقد تسببت بتهجير الآلاف من العرب. وتبين أنها تلقت تسهيلات من الجانب العراقي، الذي سبق أن وفر تسهيلات مماثلة لآلاف الإيرانيين والعراقيين الذين دخلوا سورية للقتال إلى جانب النظام وتحت الإمرة الإيرانية، كما غض النظر عن تغلغل مئات «القاعديين» ليرفدوا «داعش» في مناطق المعارضة السورية.. كل ذلك يلفت الى خطط للنظام يأمل بأن تمكنه من توريط الأتراك من جهة، ومن ضرب وتفكيك مواقع للمعارضة (في الشمال) أو عزلها (في الغوطتين). من جهة أخرى، وذلك من طريق توظيف مكونات اجتماعية سبق أن جندها لمصلحته أو باستقدام «مكونات» هجينة تابعة لـ «القاعدة». ثم أن النظام لايزال عازماً على استخدام ورقة الأكراد لطرح مشروع التقسيم.
إذا رُبطت هذه الخطط بمواصلة الإعداد لمعركة القلمون (شمال شرقي دمشق)، فما الذي ترمي إليه؟ لا بد من التذكير بأن النظامين السوري والإيراني اعتمدا منذ نهاية آذار (مارس) 2011 استراتيجية قوامها أن الأمر يتعلق بـ «مؤامرة على المحور الممانع» ولا بد من هزمها بأي طريقة. ومنذ أوائل 2013 لم يعد ممكناً التمييز بين اتباع النظامين، بل أن بلوغ نظام الأسد نقطة نقطة العجز عن تنفيذ خطط «الحسم» أبرز في الشهور الأخيرة ميليشيا «أبو الفضل العباس» الإيرانية، التي ذاع سيط وحشيتها أخيراً بعد مجازر الذيابية (جنوب دمشق)، لكن العديد من عناصرها وقع في أسر مقاتلي المعارضة في مناطق اخرى. قبل ذلك سُلطت الأضواء على ميليشيا «حزب الله» خصوصاً بعد معركة القُصَير، ورغم تسريب الحزب أنه انسحب أو على الأصح سحب جزءاً من قواته من سورية إلا أن التحضيرات الجارية لمعركة القلمون كشفت كذب هذا الادعاء.
ما الهدف إذاً؟ لا علاقة للقلمون بالتحضير لـ «جنيف 2» ولا داعي لسؤال خبراء عسكريين أو قريبين من «حزب الله»، فأي دمشقي يعرف مدينته ولايزال مقيماً فيها سيقول لك فوراً: أولاً، أن هذه المعركة ستكون إيرانية بكل تفاصيلها. ثانياً، أنها ترمي إلى وقف النزيف الذي تتعرض له الفرقة الثالثة المتمركزة في هذا القطاع لأن عديدها هبط من 17 ألفاً إلى 9 آلاف بسبب الهروب والانشقاقات. ثالثاً، أن النظام وحلفاءه يريدون هذه المعركة، خلافاً لكل مظاهر الثقة التي يبدونها في حرب الغوطتين، بسبب قلقهم على وضع دمشق وتحسباً لأي ضغط مباغت. لذلك، رابعاً، يراد إقفال آخر مسالك المساعدات العسكرية التي تصل إلى المعارضين في الغوطتين، وتحديداً من لبنان... لكن هذا الدمشقي، عادياً كان أم أكاديمياً، سيضيف أن الأخطر، خامساً، أن معركة القلمون استكمال لمعركة القصَير في عملية «ترسيم حدود الدولة العلوية» رغم أن النظام لم يتلق أي إشارة دولية مطمئنة بشأن هذه «الدولة».
إلى ذلك، تحاول هذه التحركات إيجاد ردود ميدانية واضحة على تساؤلات القوى الدولية في سياق التحضير لـ «جنيف 2». وأهمها ما كرره بشار الأسد في مقابلاته، وهو أن النظام جاهز للتفاوض لكن الطرف الآخر غير موجود أو يقتصر على «إرهابيين»، وإذا أريد حصره بـ «الائتلاف» فإنه يعاني من تفكك روابطه مع الداخل، وفي هذه الحال يمكن إشراكه في «جنيف 2» لا كممثل وحيد للمعارضة بل كواحد من أطيافها بمن فيها المعارضة الداخلية المدجنة شريكة النظام. وإذ أوحى رفض «المجلس الوطني السوري» المشاركة في «جنيف 2»، وكذلك بيانات الداخل عن نزع شرعية التمثيل من «الائتلاف»، بانقسام المعارضة حول المفاوضات المزمعة، إلا أن هذه المواقف ساهمت عملياً في تصليب الموقف الذي حمله «الائتلاف» الى اجتماع «أصدقاء سورية» في لندن. إذ جاء معبراً عن معارضي الداخل، خصوصاً باستبعاده أي مساومة حول «تنحي الأسد». ولعل السفير روبرت فورد الذي قصد إسطنبول ساعياً إلى إقناع المعارضة بعدم تفويت فرصة التفاوض اصطدم بممانعة لها أساس صلب: ما الذي قدمته أمريكا لنا كي تضغط علينا، خدعتنا وخذلتنا وتركت أهلنا يذبحون ومدننا تدمر، عرقلت وتعرقل تسليح «الجيش الحر»، ساهمت في شكل غير مباشر في انتشار «القاعدة»، وعملت على التضييق علينا مالياً وحتى إغاثياً، لا نحن ولا أي من «الأصدقاء» نعرف على ماذا تتفاهم أمريكا مع روسيا، وتريدنا أن نذهب إلى تسوية رسمها النظام، لا أحد في المعارضة يستطيع التفاوض وفقاً لهذه الظروف والمعطيات. لم يكن اجتماع «أصدقاء سورية» في لندن مريحاً للأمريكيين. أدرك جون كيري خلاله أن الجميع، أوروبيين وعرباً وسوريين، لا يشعرون بثقة حيال تداعيات التفاهم الأمريكي - الروسي على الأزمة، كما ظهرت في معالجة ملف السلاح الكيماوي، ولا حيال التقارب الأمريكي - الإيراني الذي يثير قلق دول الخليج وشكوك بعض الأوروبيين. غير أن موقف «الائتلاف» السوري كان الأكثر تعبيراً عن واقع شاء الأمريكيون تجاهله، وهو أن المعارضين الحقيقيين على الأرض (لا «داعش» ولا «جبهة النصرة» ولا أشباههما) يشعرون بأن «الأصدقاء»، مختزلين في أمريكا، تسببوا بمزيد من المآسي لهم ويتصرفون كما لو أنهم يريدون للمعارضة أن تهزم وتستسلم أمام النظام. لذلك ينصح مساعدو كيري بتأجيل «جنيف 2» أو حتى بإلغائه، لأنهم أدركوا أن الروس يقودون الموقف الأمريكي إلى ما أراده الأسد منذ البداية: تسوية دولية مع النظام الذي قدم السلاح الكيماوي دفعة أولى من ثمنها، أما الثانية فقد تكون بتعهده ضرب أتباع تنظيم «القاعدة».
عن صحيفة «الحياة»