حوارات طويلة تمت مع عدد من الأصدقاء وبعض المسؤولين والبرلمانيين خلال الأسبوعين الماضيين بشأن التقرير السنوي لديوان الرقابة المالية الذي كنا نتوقع صدوره قريباً، وتنشر الصحافة المحلية تفاصيله اليوم.
خلاصة هذه الحوارات الطويلة سؤال واحد لا أكثر وليس إجابة!
السؤال هو: هل تستحق البحرين ديواناً للرقابة المالية والإدارية؟
أحد الأصدقاء كان يتحدث بأن البحرين لديها الكثير من المشاريع والمؤسسات والقوانين، ولكن يبدو أنها لا تستحقها. برر فكرة عدم استحقاقها بأن «المجتمع البحريني لم يستوعب حتى الآن مثل هذه المؤسسات، ولم يتعلم كيفية الاستفادة منها أو التعامل الإيجابي معها».
فكرة ديوان الرقابة المالية والإدارية لم تأتِ من فراغ أو اقتراح من شخص هنا أو هناك، بل صوّت عليها 98.4% من شعب البحرين في منتصف فبراير 2001، لأنها جاءت ضمن مشروع ميثاق العمل الوطني، وبالتالي الشعب استفتى نفسه بشأن الحاجة لديوان الرقابة المالية والإدارية، واليوم هذا الديوان الذي تم التصويت على إنشائه بنعم يعمل بكل احترافية على مدار العام ليقدم الحصاد الأكبر من تجاوزات الوزارات والمؤسسات الحكومية، خاصة وأنه يعتبر جهة محايدة وتتمتع بالاستقلالية والنزاهة.
مشكلة الرأي العام والتقرير السنوي لديوان الرقابة المالية هو الاستخدام المبالغ فيه لمضمون التقرير إعلامياً، فكافة الأطراف تتعامل مع التقرير إعلامياً فقط، بمعنى أن الصحافة تنشره، وكتاب الرأي يعملون على انتقاد الوزارات والمؤسسات الحكومية ليصبح الجو العام مشحوناً، والحكومة من جانبها تقوم بأسلوبها التقليدي في توجيه الجهات الحكومية للتعاطي الإيجابي مع التقرير، ويتم تشكيل اللجان تلو اللجان لدراسة توصيات التقرير وتنفيذها فوراً. أما النواب فيظلون في حيرة من أمرهم ويتراوح سلوكهم بين مطالب بإقالة وزراء، وملوح باستجواب، ومهدد بلجنة تحقيق، ومن يطلب جلسة خاصة.. إلخ.
هذه هي الأجواء التي ستسيطر على البحرين من اليوم وحتى شهرين مقبلين على الأقل، ومن أهم الصور الذهنية التي سيتم تشكيلها «لو تم توفير مبالغ التجاوزات لصارت هناك ميزانية لزيادة عامة في الرواتب»، هذا هو المشهد السنوي، ولا أعتقد أننا بحاجة إليه.
فكرة تقرير ديوان الرقابة المالية والإدارية تقوم على مبدأ أصيل تأسست الديمقراطية البحرينية عليه، وهو الشفافية وحق الاطلاع، فمن حق الجميع أن يعرف التجاوزات، ويتعرف على موطن الخلل والمشكلات والتحديات، ليس من أجل الانتقاد للانتقاد نفسه، وإنما لتصحيح الأوضاع القائمة وتطوير الأنظمة، وإن احتاج الأمر لتعديل قوانين أو سن تشريعات جديدة فإنه ممكن ومطلوب.
مبدأ الشفافية غير موجود في ممارسات ديوان الرقابة المالية، أولاً من الناحية القانونية فإن التقرير سري، ومع ذلك تحرص إدارة الديوان على نشره إيماناً منها بالشفافية في عرض جهودها ونشاطها السنوي، وعليه هناك حاجة لتعديل قانوني ليكون التقرير غير سري مادام يوزع على المسؤولين وأعضاء السلطة التشريعية وكذلك الصحافة المحلية. وبعدها يمكن مقارنة تطور تجاوزات الحكومة منذ الأعوام الماضية وحتى اليوم، خاصة وأنه لا يمكن الحصول على نسخ كاملة مطبوعة أو إلكترونية من جميع تقارير الأعوام الماضية.
بالمقابل فإن التعاطي الحكومي مع التقرير السنوي للرقابة المالية والإدارية مازال بعيداً عن الحدث، فمنذ تأسيس ديوان الرقابة في 3 يوليو 2002 لم يتم محاسبة أي مسؤول عن التجاوزات التي حدثت في وزارته أو مؤسسته الحكومية، رغم أن هناك الكثير من التجاوزات التي تستحق المحاسبة والمعاقبة عليها. وبعد مرور 11 عاماً على تأسيس الديوان نفسه لا يمكن أن تكون هناك مصداقية لفكرة سيادة القانون في القطاع العام مادام الحكومة لا تحاسب المسؤولين المتورطين في التجاوزات وتعلن عن ذلك.
وعليه تبقى فكرة التعامل الحكومي مع التقرير مجرد ردود أفعال مدونة في التقرير نفسه وهي لا تتجاوز التبريرات أو سلسلة تصريحات طويلة للاستهلاك الإعلامي. وهذا الأسلوب لا يخدم الحكومة تماماً، بل يساهم في زيادة الاستياء الشعبي أكثر فأكثر كل عام.
أحد الصحافيين عندما كُلف بإعداد تقرير حول إحدى جزئيات التقرير قال: عام بعد عام يزداد حجم التقرير «عدد صفحات تقرير هذا العام 765 صفحة»، فهل سنصل العام المقبل إلى تقرير من جزأين أو تقرير واحد بألف صفحة؟
لا يبدو أن التجاوزات التي يرصدها ديوان الرقابة في تقريره تتراجع سنوياً، بل هي في ازدياد، وهو مؤشر غير صحي، يتطلب حركة تصحيحية في أداء الحكومة قبل أن تتفاقم الأمور ولا يمكن حينها استيعاب الاستياء الشعبي.
إذا انتقلنا للنواب الذين مازالوا بعد تجربة 11 عاماً من العمل البرلماني، فهم حتى الآن ليست لديهم الرؤية لكيفية التعامل مع التقرير، ويتركز أيضاً نشاطهم على وسائل الإعلام، والبعض يحاول البروز في هذه الفرصة، خاصة مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي المقبل في خريف 2014. ولم يفكر النواب في مرحلة ما الاستفادة من تجارب البرلمانات العريقة في التعامل مع تقرير ديوان الرقابة، فهناك الكثير من التجارب الأوروبية التي يمكن الاستفادة منها، بدلاً من التهديدات والتلميحات والتصريحات التي لن تأتِ بنتيجة أبداً.
في النهاية البحرين بلاشك تستحق ديواناً للرقابة المالية والإدارية، وهي مؤسسة توافق عليها شعب البحرين في استفتاء شعبي عام وينبغي احترامها، ولكن هناك مشكلة في العلاقات التفاعلية بين الديوان والحكومة والبرلمان والرأي العام التي تدفع بنتيجة سلبية لهذا التقرير حان وقت تصحيحها بدون تأخير.