قبل يومين استضافت البحرين ملتقى الإعلام الخليجي الأول لبحث جدلية وسائل الإعلام والاتصال وأثرها على الأمن القومي، ما فاجأني حقيقة وأنا أستمع للمتحدثين في الجلسة الأولى أن الحضور بدأ بتقديم تعريفات نظرية للأمن القومي والإعلام وأشكاله وأدواته!! وهي حقيقة آخر ما توقعت أن يطرح في مؤتمر من المفترض أن يكون نخبوياً تجاوز حضوره منذ زمن التعريفات وشرح المصطلحات؛ إذ كنت أتطلع أن يطرح المتحاورون أفكاراً وروى وإضاءات عن واقع الأمن القومي والتهديدات الحاضرة والمحيطة بدولنا، وما يحاك ضدها من مشاريع وخطط عالمية التقت فيها مصالح الأضداد، وسخرت لها الجماعات الحقوقية والأحزاب واللوبيات والتحالفات الغربية، وكونت شراكات مع جماعات تعمل ضد دولها وتستخدم وقوداً لتحقيق مخططات دول إقليمية ودولية واتخذت من عواصم أوروبا مقراً لها.هذا ما كنت انتظر سماعه بدلاً من تعريف مصطلحات جامدة لا أحتاج لتنشيط ذاكرتي بها أكثر من الدخول للشبكة العنكبوتية أو نزع الغبار عن أحد كتب الإعلام والدبلوماسية الدولية، كنت أهمس بهذا مع جمع من الحضور إلى أن جاءت مداخلة الكاتبة الصحافية الأستاذة سوسن الشاعر التي قالت بصوت مسموع وواضح وبتحليل راقٍ ما كنا نتهامس به ونحن نرفع أيدينا طلباً للكلام والتداخل.من المعلوم أنه لا توجد استراتيجية إعلامية عربية موحدة لمواجهة الحملات المعادية والمخططات التي تستهدف المنطقة، هذا على الأقل ما هو معلن وربما تكرر على لسان أكثر من مسؤول إعلامي عربي رفيع، وحتى التوصيات التي تخرج أحياناً بعد اجتماعات وزراء الإعلام العرب، لم نسمع قط عن تحركات فعلية لتنفيذها، وهذا ليس سراً يذاع؛ فأكثر ما يربط به الحديث عن ثنائية الإعلام والأمن القومي هو جدلية حرية الإعلام وحق نشر وتداول المعلومة في مقابل مخاطر ذلك على الأمن الوطني أولاً ثم القومي، إذ لا يوجد أمن قومي دون أمن وطني مستتب، ويكون الحديث غالباً على شكل تجاذب بين إعلاميين ينتهجون حرية الإعلام ويطالبون بتوسيع سقف الحريات وبين من يطالب بتغليب المصلحة الوطنية والأمن على مطالبات الحرية، ونقع عادة أسرى فهم كل طرف للخط الفاصل بين الجانبين خاصة أنه في كثير من الأوقات تكون هذه المنطقة ضبابية قابلة للتأويل!!وهكذا نظل ندور في هذه الحلقة ونبحث لدور محلي لإعلامنا في حماية الأمن (الوطني - القومي) لكن الواقع يقول اليوم غير ذلك فدور الإعلام في حماية الأمن القومي لا يقتصر على الداخل وإنما يجب أن يكون الدور الأكبر في مواجهة ما هو قادم من الخارج وما يدور ويحاك في الخارج، وهو ما لم يتطرق له المتحدثون مع الأسف، وهو تحديداً ما كنا ننتظر أن نستمع إليه منهم!!قبل 2011 كان الحديث الإعلامي أو الأمني يدور دائماً عن تحديات مردها ما حدث من تطورات في العالم العربي خلال العقود الثلاثة الماضية بدءاً من الحرب العراقية - الإيرانية ثم احتلال العراق للكويت، ثم احتلال العراق وإسقاط نظامه، والتفتت الذي نشهده في لبنان وطبعاً القضية الفلسطينية في ظل هيمنة القوى الكبرى صاحبة المصالح الاستراتيجية، لكن ما حدث بعد 2011 كان إعلاناً ببدء تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد القائم على تقسيم المقسم، وهو ما أعلنت عنه وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايز قبل حوالي 10 سنوات!!فمع بدء ما يعرف بالربيع العربي أصبح أمام الدول العربية تحدياً استراتيجياً جديداً للحفاظ على أمنها الوطني والقومي لا يمكن معه قصر الحديث عن ذلك داخل دولنا من خلال خطاب محلي أو في أفضل الأحوال إقليمي نناقش به بعضنا بعضاً ونقول لبعضنا بعضاً ما نعرفه أساساً، والأهم أننا لسنا من يجب أن يوجه له هذا الخطاب بقدر ما يجب أن يوجه للخارج للدول الكبرى وللرأي العام فيها ومواقع التأثير في القرار لديها؛ فهل نحن نقوم بذلك؟ أم مازلنا على تلك النظرة القاصرة التي تعيد كل مرة إنتاج جدلية حرية الإعلام وأولويات الأمن الوطني في وقت أصبح فيه هذا الحديث بارداً مع وجود الإعلام الحديث ومواقع التواصل التي لا يمكن بأي شكل من الأشكال الحكم عليها وعلى ما يتداول فيها بالقدر الذي يمكن أن يحدث في وسائل الإعلام التقليدية.لقد أصبح الإعلام بكل تنوعه واتساعه أحد أهم الأسلحة في العصر الحديث، وكما يمكن أن يستخدم كأحد الآليات للدفع باتجاه التنمية الشاملة، فإنه يستخدم كذلك في الحروب الحديثة فالمعارك أصبحت تدار بين وسائل الإعلام المختلفة سواء داخل كل دولة أو فيما بين الدول والكيانات الكبرى ذات المصالح الواسعة كإيران والولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا، وهو ما يبدو جلياً أنها تستخدمها بدون هوادة وبكل آلتها الإعلامية الواسعة؛ فهل سنواكب نحن في عالمنا العربي كل ذلك أم سنظل نقيم ندوات نطرح فيها تعريفات الأمن القومي والوطني ونتجادل حول سقف الحرية وأولويات الأمن في حدودنا الداخلية الضيقة؟!
{{ article.visit_count }}
970x90
{{ article.article_title }}
970x90