كان يا ما كان يا سادة يا كرام في سالف العصر والأوان رجل غريب فقير ترك أهله وتبع حلمه، فسافر إلى بلاد قيل عنها في أساطير الزمن الغابر «لا ينعق فيها الغراب ولا يقتل الأسد الغزال»، فخرج هذا الرجل يسعى لرزقه ورزق عياله، ولأن الرزق بيد الله يوسعه لمن يشاء ويقتره على من يشاء، يقدمه لمن يشاء ويؤخره على من يشاء، تأخر رزق هذا الغريب وطالت أيامه وخوت جيوبه وتقطعت به السبل والأسباب، فأفلس وجاع، والجوع يا سادة -لو تعلمون- كافر!!
وبينما ذلك الغريب يسير على قدميه عله يجد عملاً هنا أو رزقاً هناك، لمحت بطنه الخاوية قبل عينيه المشوشتين ثلاث حبات «كنار» سقطت من شجرة في بستان، فحث الغريب رجليه للسير وسارع خطواته نحو تلك «الكنارات» خوفاً من أن يلتقطها قبله طير، وبعدما تسابق في مخيلته على لا شيء مع لا أحد حتى يحصل على على ما يأكل، التقط تلك الحبات الثلاث ومن فرط جوعه لم يزح عنها حتى التراب العالق من طين الأرض، فوضعها في فمه بالطول والعرض.
وما كاد يفعل! حتى تعالى في البستان الصراخ «امسكوا الحرامي الجشع السارق.. قاطع الطريق المخرب المارق»، ومن كل مكان التف حوله الحراس، وصوت صاحب البستان ذي الكرش المستديرة ينادي «أمسكوه وبالسلاسل قيدوه وعلى الأرض ارموه ثم إلى القاضي خذوه ليحكم عليه بأشد العقاب جراء ما فعل من جرم وخراب!!»، تسابق الحراس الأشداء على الغريب الضعيف المذهول فقيدوه وجروه وإلى القاضي أخذوه!!
وبعد أن أصر صاحب الأرض على تنفيذ العقاب، ورفض أن يقدم الشفقة والرأفة ولم تأخذه في الغريب الرحمة، ولم يتنازل عن حقه المهدور وماله المنقوص بقدر «لا شيء»، أصدر القاضي حكمه؛ يسجن الغريب ويبعد من الديار ويوضع رسمه على كل المداخل ليراه الخارج والداخل حتى لا يعود من جديد، فربما أعاد اقتراف ذنبه وأكل ثلاث حبات طماطم -لا قدر الله- فسعر الطماطم في تلك البلاد كما الذهب ينقص ويزيد!!
مرت الأيام وتطايرت الأخبار، ووصل أمر الغريب إلى كل الأمصار، لكن العجيب أن الناس في الأراضي البعيدة لم يتعاطفوا مع ذلك المسكين بقدر إعجابهم بتلك الجزيرة، وكيف أن القصاص فيها دائم والحساب قائم والفساد نائم، فلا تسرق فيها «كنارة» ولا يعفى عن سارق، وإن كان مضطراً جائعاً غير باغٍ ولا مارق، لكنه العدل والقانون الحاسم، فآكل الحرام أو مال العوام يجازى دون تأخير على الدوام، لا فرق في ذلك إن أكل «كنارة» أو ابتلع «عمارة!!».
وردد الناس في كل مكان إنها أرض الأحلام، وصار الناس في البعيد يقصون الحكاية، ويحيكون حولها من نسج الخيال ما يجمل الصورة ويجعل منها أسطورة!!
وفي يوم من الأيام وبينما كان شاب وسيم يجلس أمام بركة ماء وحوله الأشجار وضوء القمر والنسيم، لكنه رغم كل ذلك الجمال كان حزيناً، فقد ضاع ماله بعد أن سرقه بغير حق شريك أثيم، خان الأمانة وأخذ كل المال الذي وضعه في تجارة الحرير، ولم ينصفه قاض ولا زعيم، فذلك الشريك الخائن اشترى الشهود وزور العقود، واستولى على كل الموجود، فلما سمع الشاب المغدور القصة وأخذته الغصة قرر أن يبحث عن تلك البلاد التي لا يضيع فيها حق العباد ولا يتجرأ أحد على أخذ مال ليس له، فالحق محفوظ والدين مردود والكل قرير العين محمر الخدود، هكذا فكر الشاب فإن كان آكل «الكنار» بغير استئذان ناله القصاص؛ فكيف بحال سارقي أرزاق الناس؟!
عبر الشاب الجبال وتخطى القفار، ولما اقترب من تلك الديار التي أكل فيها الغريب «حبات الكنار» وكان في آخر الطريق على ظهر سفينة وبانت له ملامح المدينة، سمع كلام بحار من أهلها يحدث صاحبه الغائب من زمن عنها، فيقول: هل جاءتك أخبار الأمطار وكيف غرقت بسببها البيوت وانكشف المستور، وكيف تقع الجمال من فوق الجسور، وكيف ينتظر الناس بالسنين زيادة الأجور، وهل سمعت عن ذاك المسمى «تقرير» الذي ينشر كل الغسيل، فيرى الناس ما يبيض الشعر ويقصر الدهر، سرقات وفساداً وضياعاً لمال العباد، وتقصيراً وتأخيراً وتمريراً، وبعد كل ذلك لا يحاسب أحد ولا يقاضى أحد ولا يعزل أحد، ويظل يردد الناس الكثير الكثير مما هو قاس ومرير!!
تعجب الشاب الوسيم، وما كاد يصدق ما يسمع، ومال على البحار وسأله دون انتظار: كيف ذلك؟! أليست هي نفس البلاد التي سجن فيها الغريب لأنه أكل الـ«كنار»؟! فضحك البحار وقهقه وتمايل ودمعت عيناه وهو يقول: تلك «نكتة» أيها الشاب المهبول، وهل يصدق تلك القصة أصحاب العقول؟!
وهنا بدأ الديك بالصياح وتوقفت شهرزاد عن الكلام المباح، ومن شدة غضب شهريار أغمض عينه وهو يزمجر ويتمتم، واحتاج في تلك الليلة لحبتي منوم.
شريط إخباري..
هذه القصة من نسج الخيال وأي تشابه بينها وبين الواقع من باب الصدفة المجردة ليس إلا!!