هنالك فرق شاسع جداً بين الديمقراطية والفوضى غير الخلاقة التي دعَتْ إليها كونداليزا رايس ونفذتها الإدارات الغربية المتعاقبة، فما يحدث اليوم في وطننا العربي، وفي عموم الشرق الأوسط، هي فوضى عارمة بما تحمله الكلمة من معنى، وهذا ليس انتقاصاً من عزيمة الشعوب نحو التغيير، لكنه الضياع الذي لم يتوقف عند حدود تغيير الرؤساء الذين سقطوا وحسب.
من يرفض التغيير هو شخص متخلف ورجعي وسطحي، لكن يجب أن نعرف ما هو المتغير لحد الآن، ومن هو القادر على تشخيص التغيير، ومن يعتقد أن ما يجري في الوطن العربي من انهيارات كاملة للمنظومات الثقافية والاجتماعية والحياتية بفعل المؤامرات الواضحة للغرب، هو التغيير المنشود، فهو واهم، ومن هذا الوعي المنقوص يظل الكثير منَّا لا يميز بين الثورة والفوضى.
لسنا ضد الثورات الشعبية التي تطالب بالديمقراطية، وليس بإمكان أحد أن يقف في وجه الشعوب إذا ثارت، ولكننا ضد المشهد الحالي المُفضي إلى المجهول، بل نحن نجزم أن ما يجري في الوطن العربي من انهيارات قيمية يعتبر مقدمة واضحة وصارخة للتفتيت العلني لما هو قائم الآن، فالعراق وسوريا والخليج، وحتى تركيا وأفغانستان ومصر، كلها على الرادار الغربي، فالتقسيم القادم حاضر بقوة في استراتيجيات الغرب وليس في مخيلاتهم وتحليلاتهم السياسية، كما يتوهم البعض، بل إن ما يجري اليوم في وطننا العربي والشرق الأوسط ما هو إلا مقدمة حقيقية لتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ، وما سقوط بعض رؤساء الحكم عند العرب إلا تغطية صريحة لاستكمال مشروع التقسيم الغربي للمنطقة العربية.
الغرب اليوم يدفع باتجاه الفوضى وليس باتجاه الثورة، ولذا فإننا نستمع بعد كل مشهد من مشاهد الفوضى العربية، إلى تصريحات كبار المسؤولين الغربيين بأنهم يناصرون الشعوب المظلومة، ويقفون مع المطالب الديمقراطية وغير ذلك من الكلام «المنمق»، أما في حقيقة الأمر فسيظل الغرب السياسي عدو الشعوب والعرب، بل سيبقى عدو الديمقراطية الأول، وهذا عهدنا به منذ وعد بلفور وليس انتهاء بسايكس بيكو.
إن التصريحات المتناقضة التي يقذفها ساسة الغرب في وجوهنا كل يوم هي في حقيقتها مناورات سياسية لا غير، فتارة ينتقد الحكومات العربية على قمعها شعوبها وعدم سماحها بإعطاء تلك الشعوب حقوقها وحرياتها، وتارة يؤكد وقوفه التام مع تلك الأنظمة مهما كلفه الثمن، وبين هذين الموقفين يتوه العرب، حكاماً وشعوباً.
اليوم وبعد ثلاثة أعوام من المشهد السياسي وبعد اكتمال ثلاثة فصول من الربيع العربي، نجد أن الوضع العربي يزداد سوءاً، ويتجه نحو أقصى مراحل الخطر، فلا الديمقراطية المنشودة للشعوب تحققت، ولا استطاعت الأنظمة العربية أن تهدأ جراء ضغط شعوبها عليها ولو للحظة واحدة، وبين هذين الاتجاهين يقف الغرب المستعمر على التَّل يتفرج وهو يشاهد نزيف دماء الشعوب الأوسطية تنهمر كالشلالات، ومعها تنهار الاقتصادات والحكومات، فيمد يده في لحظة خاطفة للشعوب عند حماستها ليخدعها فيخفف من فورانها، وفي أحيان أخرى يعطي تطميناته للأنظمة بحمايتها، لكنه في واقع الأمر يظل يراقب مصالحه ولو في بحر الصين، أو في جحر أفعى تعيش في دولة من دول الجنوب، أما من يصدق خرافات جماعات اللوبي الصهيوني ومؤسسي «بلفور» حول ترسيخ مفاهيم الديمقراطية والمساواة في وطننا العربي، فإنه لن ينال من الحرية إلا سرابها، ومن الديمقراطية إلا صداها، باختصار إنها لعبة الكبار في ملعب الصِّغار.