أبدعت البشرية صوراً متعددة لإلحاق الأخبار والروايات لغير قائلها. والهدف غالباً كان إبعاد الشبهات عن القائل الحقيقي والفرار من مسؤولية فحوى القول. وهذا يدل على أن العقل الجمعي البشري كان يعاني منذ طفولة التاريخ من الخوف تجاه الكلمة ومن الضيق بالمحاسبة على الأفكار والتعبيرات.
في الأدب كان الأمر أكثر جلاء، فأغلب القصص القديمة تبدأ بكلمة «يحكى» المبنية للمجهول الذي يستحيل أن يسأل أحد من هو ويستحيل أن يطالب أحد بمحاسبته على ما حكاه من معان، إذ إن السامع تتولد لديه قناعة عميقة أن الحاكي غائر في العتمة لن يهتدي إليه أحد. ثم اخترع القصاصون شخصية الراوي «المتجسد» الذي يمثل دور ناقل الحكايات التي اكتسبها من الخبرة والقراءة والتجميع، وربما تكون أشهر الروايات التي اخترعها الأدب الشعبي، لينصف الفئات المهمشة من الشعب، شخصية شهرزاد، تلك الفتاة المثقفة التي جمع لها والدها الوزير الكتب من كل أصقاع الأرض لتستزيد منها علماً. وحين وضعها القدر على شفا ليلة من مقصلة السياف راودت شهريار بحكايات عن الجان والحيوان والفقراء، هي في الأصل رسالة بعثت بها إلى باطن عقله أن الكائن الضعيف إذا تسلط عليه غيره المتجبر لا محالة ينتصر إن هو لجأ إلى الحيلة والحكمة والدراية. ثم اخترع الأدباء شخصية «الحكواتي» الذي يقف على خشبة المسرح ليروي أحداثاً لا علاقة له بها «ظاهراً» ويعلق عليها تعليقات حكيمة أحياناً وطريفة أحياناً، كل ذلك كي يبعد الكاتب الأصلي عن نفسه نسب قول القصة والأحداث والرواية ويلحقها بحكواتي لا علاقة له هو الآخر بالقصة.
وفي الكتابة الصحافية نجد أن أحد أصولها الإحالة إلى مصدر أو قائل حتى لو كان بمجرد الصيغة فقط، فغالباً ما نقرأ أن الخبر تصريح من مصدر موثوق رفض ذكر اسمه، ونجد أن التعليق مختوم بـ»كما أوضحت بعض المصادر» أو بـ»كما قيل». وعادة لا يتوقف أحدنا عند اسم المصدر الرافض ذكر اسمه ولماذا الرفض، ولا نتقصى عن المعلقين المبهمين. وغالباً إذا تعقد أمر الخبر ووصل للقضاء يكون رد الجريدة أنها غير معنية بتسريب أسماء مصادرها. وهكذا تتحمل الجريدة أحيانا مسؤولية الخبر الأدبية أو القضائية ولا ندري هل تحاسب مصادرها وتدقق معهم أو تحقق معهم بعد ذلك؟
وحين تنتشر إشاعة نجد أن الكلمة المفتاح لسيرورة الإشاعة هي كلمة «يقولون»، فينقلها الجميع وتشيع على عهدة «يقولون»، وأنك لو سألت ناقل الإشاعة، وربما صانعها، عن الجماعة الذين «يقولون» فإنك لن تجد الجواب، وسيطرق مفكراً ومتوتراً وكأن الذين «يقولون» له هم طائفة من الجن أو طيف إلهام مجهول نفث في روعه الخبر ثم غاب.
التهرب من مسؤولية القول المباشر أو النقل المباشر عن معلوم سمة من سمات البشرية، ابتكرت صوره لتعبر عن معاناتها الشخصية ولتفصح عن نقدها الاجتماعي أو السياسي، أو نميمتها الشخصية ورغبتها في إيذاء الآخرين. إنها دليل عن الرغبة الملحة عن التعبير عن شيء ما، مع العجز عن المواجهة لأسباب عدة.