وطنية المصريين هي ما راهنت عليه بلدهم في لحظة تاريخية شديدة الحساسية والصعوبة. وهي كذلك، كما أثبت الاستفتاء على الدستور وبخاصة في يومه الأول، ما أساء «الإخوان» فهمه وتقديره حق قدره وذلك بشكل أعمى وتراجيدي. ووطنية المصريين لهذا، هي السبب المباشر لسقطتهم المميتة في بئر الإدانة التاريخية والانحشار في ممر مسدود لا مخرج لهم منه الآن.
على أساس من هذه الوطنية قال المصريون كلمتهم المسؤولة والبليغة في الدستور بما يسد الثغرة التي أحدثها «الإخوان» في جسد الوطن، وبما يشكل عبوراً آمناً بمصر البلد والدولة من مرحلة الغموض والأسئلة المقلقة والإمكانات التي تفتح الطرق على الانشقاق والفوضى وفراغ المؤسسات وغيابها وتفعيل دور يد الخارج في مصير الكيان والدولة المصرية.
لقد كان يراد للشعب المصري أن يكون غائباً وغارقاً في الحيرة والبلبلة لما يقود إلى اللاموقف. وكان الطريق إلى صناديق التصويت تقطعه النيران المشتعلة وأحداث التفجيرات وكثير من الدعاية التي تزيف الوعي في محاولة لإبقائه في البيوت وتغييبه عن مصيره كما غيبت شعوب عربية أخرى. لقد أسقط هذا الشعب كل الرهانات حول تغييبه عن التصويت على الدستور وأثلج صدور كل من يحب مصر ويقلق على مستقبلها بإقباله المكثف على صناديق التصويت ووقوف أبنائه وسيداته في صفوف طويلة تمتد لعشرات الأمتار وبأعداد تصل إلى الآلاف في المركز الواحد.
لم يصوت المصريون بعاطفية أو بشعور من أداء الواجب أو تجريب الحياة والحقوق الديمقراطية كما فعلوا في الاستفتاء على دستور 2012 وإنما صوتوا بعقلانية وبحس تاريخي مرهف يمارسون فيه حراستهم وحفاظهم على وطنهم ويثبتون فيه وعيهم وإدراكهم بأن الدولة لا نظام الحكم هي أهم ثوابت بلدهم وخلاصة تاريخه، وبالتالي فإن حمايتها هي أولوية المرحلة.
لم يكن التصويت عادياً بل كان احتشاداً وطنياً بكل المقاييس والمصريون البسطاء هم الذين ربطوا بين ذهابهم إلى صناديق الاقتراع والتصويت إيجاباً على الدستور وبين إحباط مؤامرات الخارج وتدخله في شأن مصر في تاريخ طويل لم ينقطع في تسلط الغرب الاستعماري ومحاولته إعاقة مصر عن دورها التاريخي الحقيقي.
الاستفتاء على الدستور كان أنبوبة الاختبار الحاسمة لأثر الدعاية الإخوانية والغربية في الوعي المصري خلال الشهور السبعة الماضية، حيث أثبت المصريون تجاوزهم لتزييف الوعي وقدرتهم على الفرز الوطني مختارين وطنهم ووحدته وسلامته. الإرادة الوطنية المتوحدة التي ظهر بها المصريون في محيط من أوطان عربية تتفتت وتتناحر داخلياً هي القيمة الكبرى الغائبة والمفقودة التي عادت حية على يد المصريين لتعلم درساً وتلهم العرب فعلاً مختلفاً بعدما انتهوا إليه حالياً. المصريون هم جزء من محيط شعب عربي عبروا عن ضميره وحقيقته في اختياراتهم الوطنية، ولو أتيحت الصناديق الانتخابية بمثل ما توفر للمصريين لصوّت الناس في بلدان الصراع والتناحر الداخلي لصالح وحدة الأوطان وسلامتها وضد كل من يطلب دماء الشعوب تقرباً للخارج وتدخله.
في يوم الاستفتاء الأول سكب «الإخوان» بنزينهم على أسفلت الشوارع وأشعلوا النيران، كما تسببوا في سقوط ضحايا من المصريين كي تتصدر أخبار القتل نشرات الأخبار في الإعلام الأجنبي الذي شقت عليه الوحدة الوطنية المصرية كما تبدت في يوم الاستفتاء وحاول الدوران عليها بالحديث عن مصر منشقة على نفسها ومجزأة بين معسكرين وبشكل خطر ينذر بالعواقب.
إنه الحديث الجاهز الذي أثبت الاستفتاء عكسه، وأثبت أن الشعوب تكره الفراغ السياسي وتكره المتعاونين مع الخارج وتتشوق إلى زعامات ملهمة تقودها وتعبر بها بعيداً عن الفوضى والمجهول.
عن صحيفة «الخليج» الإماراتية