يبدو أن الأقطار العربية قادمة على أكثر من ربيع، وأن أوضاعها المترجرجة، وغياب المشروع الوطني المرتبط أساساً بالمشروع القومي ما زال غائباً رغم مرور أكثر من قرن من الزمن على الإرهاصات فيه، وربما صار يبتعد أكثر فأكثر بعد أن أصبح لكل قطر عربي تاريخه وربيعه ورؤيته الإقليمية لذاته ولما حوله، لاسيما بعد أن ارتفع بصورة محمومة غير مسبوقة الشعار القطري المخيف «قطرنا أولاً»، وأولوية العناية بالقطر أو الإقليم الاهتمام به أولاً، لا يتناقض مع ما ينبغي أن يكون عليه حال النظر إلى القطر باعتباره جزءاً من أمة ومن وطن كبير.
والخطورة الآتية من شعار «أولاً» أنه بدأ يأخذ مفهوماً إقليمياً ويدفع بكل قطر عربي إلى أن ينفض يديه من كل ما يتصل بالقضايا المشتركة التي تؤكد أن الأمة العربية واحدة وأن مشكلاتها لا يمكن أن تحل في إطار إقليمي منفصل، وقد أثبتت السنوات الطويلة الماضية أن انكفاء بعض الأقطار العربية على ذاتها، ووضع الحلول المطلوبة على مقاسها غير مجدٍ ولا يحل أي إشكال.
والصادم، بل الفاجع أننا لا ننظر ما حولنا وما إلى جوارنا من أمم وشعوب بدأت السير الحثيث نحو المستقبل في تكتل موحد يحاول أن يتناسى مكوناته العرقية واللغوية، وأقرب ما يكون إلينا دولتان إسلاميتان كبيرتان هما؛ تركيا وإيران. والدولتان من خلال التدقيق والتمحيص لا تمتلكان من التجانس اللغوي والعرقي والتاريخي ما يمتلكه العرب. الأرض الواحدة في تركيا وإيران هي الجامع بين عناصر الأمنية، وهي الموحد لتوجهاتهما نحو البناء وتحدي الصعوبات الداخلية والخارجية.
فلماذا العرب وحدهم ولهم كل هذه الإمكانات الباعثة على الاندماج والعمل المشترك يعانون حالة من التنافر وأحياناً التناحر؟ ولماذا ينظر إليهم الأصدقاء نظرة إشفاق في حين ينظر إليهم الأعداء نظرة ازدراء واستعداد للانقضاض والاحتواء؟ وهل لا يزال غائباً عن أذهان العقلاء من القادة أن السبب في شيوع هاتين النظرتين يعود إلى هذه الحالة من التمزق والتنكب عن طريق القوة والاعتماد على النفس؟
إن مشروع النهوض المعطّل والمنتظر في الأدراج منذ عشرات السنين ينادي بإلحاح في حين تؤكد مكوناته التاريخية والمعاصرة أنه هو الحل، وأن الربيع الواحد المشترك ربيع إعادة الأمة إلى كيانها الموحد على شكل ولايات أو أقاليم هو المدخل الصحيح لحماية الأقطار المبعثرة من أخطار التمزق ومن أخطار الجشع الذي تبديه الدول الطامعة تلك التي تعمل بحكمه الذئب الذي لا يأكل من الغنم إلاّ الشاردة والخارجة عن الحشد الذي تخشاه الذئاب ولا تفكر في الاقتراب منه.
لقد بدا ما يسمى بالربيع العربي يتوالى من قطر عربي إلى آخر، وبدلاً من أن تتواصل مسيرته، وجدناه يغرق في صراعات ليست بعيدة من أصابع الأعداء، وهاهو ذا يبدأ في مصر العربية رحلته الثانية، ويصعب التكهن بمصيره ما دام محصوراً في رؤية إقليمية تعطي ولاءها كله لمصر بعيداً عن محيطها العربي الذي كان قد أعطاها حق القيادة والريادة منذ خمسينات القرن المنصرم.
ولا يصح -والحديث في أغلبه عن الأربعة العربية- أن ننسى ذلك الابتهاج الذي بدا على وجوه أبناء الأمة في مشرقها ومغربها عندما بدأت سلسلة انتفاضات الربيع الأول، وكيف ظنت الأغلبية الوحدوية أنه بداية إلى استعادة الكرامة القومية المهدورة، وظنت الأغلبية المحرومة أنه بداية الطرق إلى العدالة الاجتماعية المفقودة. وظنت الأغلبية المقهورة أن ذلك الربيع بداية المنطلق الصحيح إلى الحرية التي طال انتظارها وطال شوق الناس إلى رؤيتها مجسدة في الأفعال لا في الأقوال وفي الحياة العامة لا في القصائد والمقالات والكتب، فالحرية هي رديف التنفس، وإيقاع الضوء الذي يجعلنا نرى الأشياء على حقيقتها من دون تزييف أو تزوير.

- عن «الخليج» الإماراتية