من الصعب الكتابة في مقال موجز عن شخصية بحجم الدكتور أحمد عصمت عبد المجيد، أمين عام جامعة الدول العربية ونائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الأسبق، ولكنني سوف أشير فقط لبعض من الوقائع التي كنت شخصياً طرفاً فيها، مثل هذه الوقائع قد لا يعرفها كثيرون، لكنها تدل بوضوح على خصائص ذاتية لهذه الشخصية المتميزة.
لعل أول تلك الوقائع هو توليه منصب رئيس الهيئة العامة للاستعلامات بعد هزيمة عام 1967م، واستطاع أن يطورها ويقدم منهجاً جديداً للمتحدث الرسمي باسم الدولة، بحكم ما لديه من خبرة دبلوماسية ومؤهلات قانونية وحكمة شخصية، وكنت آنذاك دبلوماسياً ناشئاً وتابعت ذلك عن كثب، فأثار ذلك إعجابي أسلوبه في التعامل مع الإعلام والتعريف بقضايا الوطن ومشاكله آنذاك، وكنت عملت معه لفترة وجيزة كمدير مكتب نائب وزير الخارجية عام 1967م.
الواقعة الثانية عندما عملت في مكتبه، وكان وزيراً للخارجية ثم نائباً لرئيس الوزراء، وتمت ثلاث وقائع ذات دلالة؛ أولها عندما طلب مني أن أعد له بعض الكلمات في مناقشة إحدى رسائل الدكتوراه التي كان يشرف عليها بجامعة الإسكندرية آنذاك، والثانية عندما طلب مني إعداد بيان له عن السياسة الخارجية لإلقائه في مؤتمر عام للحزب، وأدى هذان الأمران إلى تقارب الرؤى والتفكير بيننا، مع احترام فارق الخبرة والسن والمنصب، الواقعة الثالثة، وكان فيها اختبار لي وله، فقد كنت كثير الكتابة في الصحف آنذاك عن السياسة الخارجية وغيرها من الموضوعات الوطنية العامة، وكتبت مقالاً أشيد فيه بسياسة الوزير إسماعيل فهمي، ولم يكن وزيراً آنذاك ولم يكن لي أدنى علاقة شخصية به، وانتقدت فيه سياسة الدكتور محمود فوزي، وكان الدكتور عصمت عبدالمجيد هو تلميذ للدكتور محمود فوزي، ووثيق الصلة به وحللت توجهات السياسة الخارجية، وكذلك أوضاع الوزارة من الناحية الإدارية وأشاد كثير من زملائي بالمقال.
لكن بعض أعضاء الوزارة من الإداريين رأوا أن فيه مساساً بهم وحاولوا الوقيعة بين الدكتور عصمت وبيني باعتباري مستشاراً بالوزارة وفي مكتبه، ورغم ذلك فإنني أنتقد أستاذ الدبلوماسية المصرية محمود فوزي وقدموا شكوى مكتوبة ضدي للدكتور عصمت فوضعها في الدرج، ولم يفاتحني إلا بعد أسبوعين أو ثلاثة بطريقة عرضية؛ حيث كنت في اجتماع بينه وبين أحد الشخصيات الأجنبية، طلب مني أن أعود إليه بعد توديع تلك الشخصية، وعندما عدت طلب مني الجلوس، وذكر لي الشكوى بأسلوب بالغ الهدوء، فسألته هل ترغب في عدم كتابتي في الصحف؟ فرد بحزم بلى اكتب باستمرار، فسألته هل ترى أن أعرض عليه المقال قبل إرساله للصحف؟ فقال كلا افعل ما تشاء كما تريد، وأضاف أن كل ما يطلبه مني هو قراءة المقال مرة ثانية، وحبذا في اليوم التالي لكتابته قبل إرساله للصحافة لكي أتأكد إذا كان فيه ما يسيء لأي شخص بلا مبرر.
كان ذلك درساً بليغاً سبق أن قاله لي زميله السفير جمال نجيب الذي هو أيضاً تلميذ لمحمود فوزي. وعمل مديراً لمكتبه وكان ذلك في واقعة مشابهة حيث نصحني بشيء مماثل عندما كنت أبدي حزماً أو تشدداً في إدارتي للسفارة بالنرويج بصفتي الرجل الثاني معه، أو عندما كنت أدلي بتصريحات قوية للصحافة النرويجية بدافع وطني دون تقدير لردود فعل بعض المعارضين في النرويج لمصر والمؤيدين لسياسة إسرائيل.
وفي عملي مندوباً دائماً لمصر لدى جامعة الدول العربية وكان الدكتور عصمت عبدالمجيد أميناً عاماً لها كنت وثيق الصلة به ودائماً أشاوره في المواقف، وأتلقى توجيهاته كأستاذ ورائد من رواد الدبلوماسية المصرية، ولكنني وفي نفس الوقت لم أتوان عن نقد جامعة الدول العربية وأنشطتها وإدارتها، وكتبت كتاباً أصدرته من مؤسسة الأهرام متضمناً ذلك وأعطيته نسخة إهداء له، ولكنه لم يعاتبني ولم يغضب.
كان حليماً وكان رزيناً وكان معلماً هادئاً بلا انفعال، إلا في حالة المساس بالوطن ومصالحه فهو يغضب ولا يغضب أبداً لنفسه. رحمة الله الواسعة على الدكتور عصمت عبدالمجيد، فهو نموذج فريد في الدبلوماسية والإنسانية فنعم الدبلوماسي ونعم الإنسان.