في العام 2002 ابتكرت الحكومة مفهوماً جديداً عندما تم السماح بتأسيس الجمعيات السياسية لأول مرة في تاريخ دول مجلس التعاون الخليجي. وكان المفهوم يقوم على السماح للجمعيات بالانشغال في الشأن العام، وعدم الاشتغال بالشأن العام.
طبعاً من الصعوبة بمكان التفريق بين هذين المفهومين، فلا يمكن الفصل بين الانشغال والاشتغال في الوقت نفسه. وهذا المفهوم أربك العمل السياسي كثيراً في ذلك الوقت، خاصة وأنه لأول مرة في تاريخ البحرين يتحول النشاط السياسي من السرية إلى العلنية.
بنفس الجدلية تعيش البحرين اليوم، ولكنها جدلية الانشغال والاشتغال من ناحية مختلفة تماماً، فهي إذا كانت في ذلك الوقت مرتبطة بالشأن السياسي، فإنها اليوم مرتبطة بالشأن الاقتصادي، ومتعلقة بشكل مباشر بقضية تحسين مستوى معيشة المواطنين.
البحرين بحكومتها ومؤسساتها ومواطنيها انشغلوا كثيراً بإفراط لافت بكيفية تحسين مستوى المعيشة، ولكنهم لم ينشغلوا فعلاً بكيفية تحقيقها على أرض الواقع.
بمعنى أن هناك العديد من التصورات والأفكار التي ظهرت على مدى أكثر من عقد، ولكن معظمها كان مجرد تصورات ومشاريع نظرية لا أكثر، وحتى ما تم تنفيذه منها انتهى متعثراً، وظل هناك خجل جماعي من الاعتراف بالفشل أو التقصير فيه، ولست هنا بحاجة لضرب عدد من الأمثلة لأنها معروفة وواضحة للجميع.
عندما انشغلنا بتحسين مستوى المعيشة، تحوّل هذا المطلب إلى شعار نراه في معظم تصريحات المسؤولين، وبات رسالة أساسية للاستهلاك الإعلامي لدى كتاب الرأي وغيرهم من المواطنين والبرلمانيين.
بالمقابل لم ننشغل كثيراً بكيفية تطوير إيراداتنا الوطنية، بل ما تم ابتكاره لم يتعدَ إعادة تدوير الأموال داخل الاقتصاد الوطني، وليس ابتكار مصادر أخرى لتطوير الدخل الوطني.
وأيضاً اشتمل الانشغال على استقطاب الاستثمارات الأجنبية، ولم تتح الفرصة للمواطنين لتكوين استثماراتهم الخاصة بشكل يخدم الاقتصاد وفق مفهوم التكافل، الأمر الذي زاد من جشع المستثمرين جشعاً. وباتت مساهمات معظم المشاريع الاقتصادية القائمة اليوم مجرد مساهمات شكلية ومحدودة لا تتجاوز التبرعات هنا وهناك، ومعظمها يذهب للمشاريع الخيرية أو مؤسسات المجتمع المدني، ولا تظهر المساهمات الحقيقية التي يجب أن تكون.
ما نطالب به هنا أن يتحول الانشغال بتحسين مستوى المعيشة من شعار وجهود غير منظمة مبعثرة هنا وهناك إلى اشتغال حقيقي، وعمل من أجل تحقيق هذا الهدف، وضمان تطور الاقتصاد الوطني. وقد تكون البداية في إقامة منتدى وطني بمشاركة نخبة واسعة من الخبراء لمناقشة هذه القضية، وطرح حلول حقيقية مبتكرة، بدلاً من تلك الحلول الكثيرة التي جربناها ولم تتجاوز الانشغال المذموم.