حين تدرس العسكرة ملامح المدن، وتمارس الانفتاح التكتيكي القريب في الشوارع بدل قوات الشرطة نعرف بأنها تعاني من خلل، حتى ولو ألبست إجراءاتها وحواجز تفتيشها شرعية الأحكام العرفية ومحاربة الإرهاب ومسوغات الأخذ بالمرحلية ومتغيرات اللحظة الراهنة. واستنزاف الجيش المصري في سيناء وعشوائيات القاهرة وميادينها إثم لن يغفره التاريخ لقادته أو للقوى السياسية المتناحرة من فلول وعلمانيين وإخوان مسلمين وأبناء عاقين من المهربين والمارقين. لقد تحول الجيش المصري من سيف قتال إلى آلة إرهاب في صراع الإرادات في عبث رجال السياسة، حيث كان آخر انفتاح بعيد له هو تنفيذ «خطة المآذن العالية» التي أبدع في وضعها الفريق سعد الدين الشاذلي وحققت نصر أكتوبر 1973. فقد رأى الشاذلي بأن الجيش المصري قادر على الانفتاح البعيد وتدمير خط بارليف واحتلال 12 كيلومتراً شرق القناة. وبنى خطته على أن الصهاينة لا يحتملون الخسائر البشرية لقلتهم. كما إن نفسهم في القتال قصير فتبنوا عقيدة الحرب الخاطفة. واعتمد الشاذلي على بعدين آخرين هما حرمان العدو من الهجوم من الجوانب لكون البحر المتوسط وخليج السويس والقناة حراساً لجوانب الجيش المصري، مما يجعل قتال المواجهة الذي لا قدرة للصهاينة عليه الخيار الوحيد الخاسر سلفاً لكثرة المصريين. أما البعد الآخر فهو بناء مظلة صواريخ مضادة للطائرات لحرمان مشاة الفريق ديفيد إليعازار ومدرعاته من الدعم الجوي الذي لا يعملون بدونه، فالعقيدة القتالية الغربية التي يتبنونها تعطي حق طلب الإسناد الجوي حتى لقائد فصيل لا يتعدى جنوده 15 جندياً. ونجحت خطة الشاذلي لدرجة أن القيادة العامة في أول 24 ساعة قتال لم تصدر أي أمر عمليات لأي وحدة فرعية، فقد كانت القوات المصرية تؤدي مهامها بمنتهى الكفاءة والسهولة واليسر «كأنها تؤدي طابوراً تدريباً تكتيكياً» كما قال الشاذلي. ويلاحظ المراقب حالياً أن أطرافاً عدة تجرد الحملات على جيش «المآذن العالية» عبر محاولة خلق أزمة هوية لذلك الكيان المهم لمصر ولجوارها العربي. ومن مظاهر تلك الحملات:
- لم ينفصل الجيش المصري عن هويته الإسلامية كزاد معنوي لرجاله قبل وصول الإخوان والناصريين والانفتاحيين العلمانيين للسلطة، لذا سميت خطة العبور «المآذن العالية» ثم سميت «خطة بدر» في مراحلها النهائية لأنها نفذت في رمضان. ولم يكن الطابع الإسلامي لوجه الجيش المصري من النوع الإقصائي، فقد فتح المجال لكل أبنائه فدعمت القيادة أحد أبناء الكنيسة القبطية وهو اللواء باقي زكي يوسف صاحب فكرة فتح الثغرات في الساتر الترابي بمضخات المياه. فمن ذا الذي يروج عن جيش بهذا الإرث من التسامح أنه كان سيصبح كحرس الثورة الإسلامية في أيديولوجيته لو استمر حكم الإخوان؟ أليس هو من يروج عن ضعف إجراءات الجيش في تأمين الكنائس أيضاً!
- إن من المريب أن سياقات الأحداث التي جرت في العامين الماضيين تشير كألف شاهد إلى أن هناك من يجر الجيش المصري إلى ميدان معركة غير مناسب كمسار وصول الإخوان للسلطة بعد 80 عاماً وإزاحتهم جيلاً كاملاً من القادة، ثم فشلهم المعيب في اختيار قيادة عسكرية جديدة أخذتهم أسرى في معركة 8 ساعات فقط يوم 30 يونيو. إضافة إلى مسار انتهاك شرعية صناديق الاقتراع، ثم مسار الانقلاب العسكري المستتر. فهل اجتمعت كل السياقات في مسار واحد لإرباك الجيش المصري وتجريده من هويته؟
- رغم وجود معسكرات الجيش المصري وقطاعاته في الدلتا والصحراء الغربية والصعيد والنوبة إلا أن سيناء كانت الهدف الأول لإضعافه، بل وأصبح قتل جندي مصري في سيناء ومطاردة الجيش للإرهابيين خبراً ثابتاً في الإعلام، لأن سيناء هي درع مصر الذي يصطدم به الغزاة قبل وصولهم لوادي النيل. وجرى تحويل قطاعات من الجيش إلى أعمال الشرطة المرهقة معنوياً للرجال ومادياً للعتاد. وما ذلك إلا جزء من نهج قديم مخبأ في فقرات معاهدة «كامب ديفيد» لإبعاد الجيش عن الجبهات مع الصهاينة، وإشغاله من قبل واشنطن بألعاب الحرب في «تمرين النجم الساطع» نظير مساعدات عسكرية. بل إن النجم الساطع صار مدخل ابتزاز تلغيه الإدارة الأمريكية كما تلغى حصة التربية البدنية عن أطفال المدارس كعقاب لهم.
لقد مورس ظلم فاحش على الفريق الشاذلي من كافة المستويات خلال توليه رئاسة أركان القوات المصرية مايو 1971 - ديسمبر 1973، فقد هاجم «خطة المآذن العالية» وزير الدفاع محمد صادق لأنها لا تحقق أي هدف سياسي أو عسكري، واختلف الشاذلي مع خلفه المشير أحمد إسماعيل، لكن خلافه الأكبر كان في استهجان أمر السادات بالتخفيف على السوريين وتطوير «خطة المآذن العالية» خارج نطاق حماية مظلة الدفاع الجوي وجعلهم فريسة لطيران العدو. ثم أبعد الشاذلي من منصبه بعد شهرين من النصر كسفير في لندن، ثم عارض كامب ديفيد فطارده السادات ومبارك، وعاش منفياً في الجزائر ثم سجيناً في مصر. ورغم أنه أول من شكل قوات خاصة لمصر والوحيد الذي عاد بقواته سالمة بالكامل من فلسطين عبر سيناء خلال حرب 67، إلا أنه الوحيد الذي لم يتم تكريمه مطلقاً. فهل يظلم الجيش المصري كما ظلم الشاذلي القائد الحقيقي لحرب أكتوبر 73 ومبدع خطة المآذن العالية؟
* المدير التنفيذي لمجموعة مراقبة الخليج
{{ article.visit_count }}
- لم ينفصل الجيش المصري عن هويته الإسلامية كزاد معنوي لرجاله قبل وصول الإخوان والناصريين والانفتاحيين العلمانيين للسلطة، لذا سميت خطة العبور «المآذن العالية» ثم سميت «خطة بدر» في مراحلها النهائية لأنها نفذت في رمضان. ولم يكن الطابع الإسلامي لوجه الجيش المصري من النوع الإقصائي، فقد فتح المجال لكل أبنائه فدعمت القيادة أحد أبناء الكنيسة القبطية وهو اللواء باقي زكي يوسف صاحب فكرة فتح الثغرات في الساتر الترابي بمضخات المياه. فمن ذا الذي يروج عن جيش بهذا الإرث من التسامح أنه كان سيصبح كحرس الثورة الإسلامية في أيديولوجيته لو استمر حكم الإخوان؟ أليس هو من يروج عن ضعف إجراءات الجيش في تأمين الكنائس أيضاً!
- إن من المريب أن سياقات الأحداث التي جرت في العامين الماضيين تشير كألف شاهد إلى أن هناك من يجر الجيش المصري إلى ميدان معركة غير مناسب كمسار وصول الإخوان للسلطة بعد 80 عاماً وإزاحتهم جيلاً كاملاً من القادة، ثم فشلهم المعيب في اختيار قيادة عسكرية جديدة أخذتهم أسرى في معركة 8 ساعات فقط يوم 30 يونيو. إضافة إلى مسار انتهاك شرعية صناديق الاقتراع، ثم مسار الانقلاب العسكري المستتر. فهل اجتمعت كل السياقات في مسار واحد لإرباك الجيش المصري وتجريده من هويته؟
- رغم وجود معسكرات الجيش المصري وقطاعاته في الدلتا والصحراء الغربية والصعيد والنوبة إلا أن سيناء كانت الهدف الأول لإضعافه، بل وأصبح قتل جندي مصري في سيناء ومطاردة الجيش للإرهابيين خبراً ثابتاً في الإعلام، لأن سيناء هي درع مصر الذي يصطدم به الغزاة قبل وصولهم لوادي النيل. وجرى تحويل قطاعات من الجيش إلى أعمال الشرطة المرهقة معنوياً للرجال ومادياً للعتاد. وما ذلك إلا جزء من نهج قديم مخبأ في فقرات معاهدة «كامب ديفيد» لإبعاد الجيش عن الجبهات مع الصهاينة، وإشغاله من قبل واشنطن بألعاب الحرب في «تمرين النجم الساطع» نظير مساعدات عسكرية. بل إن النجم الساطع صار مدخل ابتزاز تلغيه الإدارة الأمريكية كما تلغى حصة التربية البدنية عن أطفال المدارس كعقاب لهم.
لقد مورس ظلم فاحش على الفريق الشاذلي من كافة المستويات خلال توليه رئاسة أركان القوات المصرية مايو 1971 - ديسمبر 1973، فقد هاجم «خطة المآذن العالية» وزير الدفاع محمد صادق لأنها لا تحقق أي هدف سياسي أو عسكري، واختلف الشاذلي مع خلفه المشير أحمد إسماعيل، لكن خلافه الأكبر كان في استهجان أمر السادات بالتخفيف على السوريين وتطوير «خطة المآذن العالية» خارج نطاق حماية مظلة الدفاع الجوي وجعلهم فريسة لطيران العدو. ثم أبعد الشاذلي من منصبه بعد شهرين من النصر كسفير في لندن، ثم عارض كامب ديفيد فطارده السادات ومبارك، وعاش منفياً في الجزائر ثم سجيناً في مصر. ورغم أنه أول من شكل قوات خاصة لمصر والوحيد الذي عاد بقواته سالمة بالكامل من فلسطين عبر سيناء خلال حرب 67، إلا أنه الوحيد الذي لم يتم تكريمه مطلقاً. فهل يظلم الجيش المصري كما ظلم الشاذلي القائد الحقيقي لحرب أكتوبر 73 ومبدع خطة المآذن العالية؟
* المدير التنفيذي لمجموعة مراقبة الخليج