كنت ألاحقها بنظراتي؛ بريئة المحيا، متناسقة القد، لباسها في قمة الاحتشام، فهي فتاة بملامح وجهها توحي بأنها في الخامسة والعشرين من عمرها ولكن تصرفاتها الخجولة وارتباكها ورعشة يديها التي تحاول إخفاءهما بأطراف كنزتها والتحايل على تعابير القلق بتوزيع ابتسامات عشوائية لا يمكن أن تعطيها أكثر من سبعة عشر عاماً.
تصرفاتها أثارت في نفسي الحيرة وحاولت أن أتقرب إليها أكثر، لكن خوفي من أن أسبب لها أياً من الإحراج اكتفيت برسم ابتسامة ترحيب مع غمزة العينين كي أرسل لها رسائل راحة، ولكن راحتها الحقيقية اكتملت عندما لمحت أختها الصغرى تأتي من بعيد لتجلس معنا على نفس الطاولة وبقربها بالتحديد، فأختها هي صديقتي أيضاً، وبدت ملامح الاضطراب عليها أيضاً كلما شعرت بأن أختها الكبرى سوف تقوم بحركة ما.
سألتها: ما بك؟ فلا تبدين على راحة من أمرك؟ هل من خطب ما؟
ردت عليّ باختصار: في وقت الاستراحة سوف أشرح لك.
وبالفعل هكذا صار وما استنتجته لم يكن خيالاً وما لمسته لم يكن وهماً، فصديقتي قلقة من تصرفات أختها الكبرى، الأخت ذات الشخصية القلقة والتصرفات الغريبة أو غير المناسبة إذا صح التعبير. فهذه هي المرة الأولى التي تخرج بها إلى مثل هذا النوع من اللقاءات الثقافية أو المؤتمرات. فشخصيتها ضعيفة وثقتها بنفسها شبه معدومة إن لم تكن معدومة على الآخر.
حقيقة، أمرها أثار فيني سؤالاً كان يجول في ذهني: بالرغم من أنها أختك الكبرى إلا أن شخصيتكما غير متقابلة، فما سبب هذا الخوف والربكة التي تعيشها أختك؟
ردت ودموع الحرقة في عينيها، بأن السبب يعود إلى زمن بعيد: «فكانت أختي تعاني من ضعف في السمع، وأهلي على غير دراية بذلك، وكلما نادت عليها والدتي ولم تستجب لها أختي بسهولة، وصفتها بـ«الصمخة» ومن كثرة تكرار النداء لها بهذا الاسم، أصبحنا نحن الإخوة نناديها به أيضاً ونحن لا نعلم المعنى الحقيقي له أو ما هو تأثيره الحارق على شخصيتها. وحتى عندما طلبت إدارة المدرسة التحدث مع والدتي عن حالتها وأنها كثيراً ما تكون شاردة الذهن، فقد ردت عليهم آن ذاك، بأن ابنتي «صمخة» وأيضاً في البيت نعاني من نفس الأمر معها للأسف. وبدل معالجة الأمر بزيارة لطبيب وأخذ دواء بسيط، تفاقمت حالتها وتدهورت علاماتها الدراسية وأصبحت انطوائية لا تحب أن تلتقي بأحد وزاد الأمر سوءاً بأن الأغلبية ممن حولنا ينعتونها بـ«الصمخة» مع ابتسامات سخرية على محياهم. وأمي لا ترد عليهم ولا تنهرهم عن هذا الوصف.
وبفترة ليست بعيدة قررت أنا بنفسي أن أعالج أختي من الحالة النفسية الرديئة التي تعيشها، وذلك بأن أُطلعها على العالم الخارجي وأمد لها يد العون تكفيراً عما سببته لها من أذى نفسي في السابق.
فالأخت الصغرى تلوم نفسها اليوم، لكن ماذا عن الأم التي بدل أن تكون الجهة الداعمة والساندة لأبنائها كانت العنصر الهدام الرئيس؟ أليست هي من وصفها نابليون بونبارت قائلاً: «إن الأم التي تهز السرير بيمينها تهز العالم بيسارها؟»، أليست هي من قال عنها حافظ إبراهيم: «الأم مدرسةٌ إذا أعددتها....أعددت شعباً طيب الأعراق!»؟
هذه باختصار كانت إحدى حالات التنمر التي ممكن أن نشاهدها أو نسمع عنها في حياتنا اليومية، فالتنمر هذا السلوك المتسلط ليس فقط محصوراً بين طلبة المدارس والمعلمين وأبناء الجيران، لكن من الممكن أن يكون مصدره إحدى الدعائم الأساسية لشخصية الأولاد ألا وهي «الأم» أو «الأب» وحتى «الإخوان».