وجدت لي في أحضان الأدب العربي وطناً، بعد أن ضاق على العرب الوطن، وأيما وطن؟!! وجدت لي في تاريخ العرب مجداً، لم أذقه -لعمري- في دهاليز الذل والحرمان. ووجدت فيه ما يقود لأحد تأويلين؛ فإما أن التاريخ العربي ملفق وليس إلا أكذوبة كبرى، وإما أن العرب لم يعودوا هم العرب الأوائل، وقد رحل المجد برحيل أشرافهم وسادتهم.. أما نحن، فحطام أمة عربية، وإرث لذلك الصنف المبتذل المستبعد من ديار العرب!! وشأني في ذلك شأن مظفر النواب؛ «لست خجولاً حين أصارحكم بحقيقتكم».
عرفنا للعرب تاريخاً مشرقاً على مر المراحل والعصور، كان للدولة الإسلامية على الأراضي العربية مجد عظيم، وقوة عظمى في العالم أجمع. فما سر الخنوع العربي، والتردّي العربي، والتخاذل العربي، أمام الهيمنة الخارجية التي استسلمنا لها وكأنها قدر لا مفر منه؟!!
سحقاً لتلك الدولة العثمانية خاطفة أضواء العرب، وأكبر الأسرار الكامنة في ذلك الخفوت العربي، والإقصاء العربي، وما تمخضت عنه اتفاقية «سايكس بيكو» في أعقابها من انسلاخ عربي في جسم الإمبراطورية «الإسلامية» العثمانية، نزوعاً لدول عربية بوصاية أجنبية، والتي رغم استقلالها السياسي لاحقاً بصيغتيه الدستورية والقانونية، إلا أنه استقلال أجوف، وقاصر في حقيقته، جعلنا نجتر يوماً تلو الآخر أذيال الهزيمة.
ورغم أن تلك الهيمنة الخارجية تهدد باستمرار دولنا العربية من حيث كياناتها الجغرافية، إلا أن الخطر الحقيقي الذي علينا حمايته فعلياً ثرواتنا الطبيعية ومواردنا البشرية، اللذان لطالما كانا محركاً للأطماع في المنطقة، ومسوغاً لابتزازنا واستغلالنا وزعزعة أمننا ووحدتنا. وعندما نحقق لثرواتنا ومواردنا ما يلزمهما من حماية وتنمية شاملة، أعتقد بإمكانية إعادة نهضتنا.
إنه المطر.. نبش الجراح، فاستدعتني «أنشودة المطر» لبدر شاكر السياب، راغمةً للغوص في أعماق الجرح العربي، والنزف العربي، والبتر المتواصل في الجسم العربي المتهالك..
(تثـــــاءب المســـــاء، والغيـــــومُ مـــــا تــــزالْ
تسح ما تسح من دموعها الثقالْ
كأنِّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام:
بأنَّ أمه – التي أفاق منذ عامْ
فلم يجدها، ثمَّ حين لجّ في السؤال
قالوا له: «بعد غدٍ تعودْ..»
لابدَّ أن تعودْ).
ثم إنني التقيت بميخائيل نعيمة في عمق الجرح العربي الغائر:
(أخي! قد تم ما لو لم نشأْه نحن ما تما
وقد عم البلاء ولو أَردنا نحن ما عما
فلا تندب فأُذن الغير ِ لا تصغي لشكوانا
بل اتبعني لنحفر خندقاً بالرفش والمعول
نواري فيه موتانا).
وقبل أن أحمل معه الرفش والمعول، استطرد:
(أخي! من نحن؟ لا وَطن ولا أَهل ولا جار
إذا نمنا، إذا قمنا ردانا الخزي والعار
لقد خمت بنا الدنيا كما خمت بموتانا
فهات الرفش وأتبعني لنحفر خندقاً آخر
نوارِي فيه أَحيانا).
وما الأحياء إلا أموات فوق الأرض؟! فلم لا ندفنهم كذلك، كما دفنوا مجد العرب؟!!
تحيط بالدول العربية الأطماع من كل صوب وناحية؛ هيمنة أوروبية وأمريكية، احتلال صهيوني، أطماع وغزو إيراني، احتلال تركي عبر التاريخ ويلوح في المستقبل مجدداً بوضوح، وأخطار أخرى متفرقة. إننا بحاجة لوعي عربي جمعي، ينفض أسمال الخيبة، ويتجرد من خنوعه المنقوع بالذل والمهانة، في نبذ للانشطار العربي والتشظي العربي، بما يلقي بنا في جب الضياع، «سنصبح نحن يهود التاريخ، ونعوي في الصحراء بلا مأوى»: قالها مظفر.
مشكلة الدول العربية أنها تواجه في الداخل دولاً كبرى كذلك من أصحاب طموح المد التوسعي، وباعتقادي فإن ذلك الطموح رغم كل ما يحققه من إيجابيات ومكاسب ودعم لمواقف بعض الدول «الهدف الاستعماري» أو حماية لها، إلا أنه كذلك مسوغ لكثير من الحذر والتجنب اللذين يحولان دون الاتفاق والشراكة واتحاد الهدف والهم المشترك ووحدة المصير.
فهل للأمة العربية أن تتدارك الأمر بالعمل على النهضة من الداخل انطلاقاً لفضاءات الخارج العربي الرحب، وعلى كل الأصعدة والمقاييس؟ برأيي فإن صفعات أخيرة بحرينية وسعودية ومصرية -بتعاون إماراتي- على الخد الغضّ كانت واحدة من مؤشرات اتحاد المواقف السياسية بما يؤكد على وحدة المصير. كما إن اهتمام المملكة العربية السعودية مثلاً بالبحث العلمي وتطبيقاته الطموحة لمنافسة أسلحة العدو العلمية والتكنولوجية وغيرها، وكذلك تجربة دبي -والإمارات كلها على الطريق- في النهضة الاقتصادية والسياحية بما يمنح المنطقة ثقلاً نوعياً مختلفاً؛ إنما هي بوادر لذلك النماء الجديد لنهضة العرب إذا ما استغل جيداً. ومتى ما اتحدت الجهود وتكاتفت الخبرات والتجارب، سنصل لوطن عربي أسمى قادر على مواجهة الصعاب، نعيد من خلاله مجد العروبة المنسحقة.
إنه المطر.. مناسبة هذا المقال، والشعور بالضياع في عالم عربي كبير.. صغير.. مجتزأ. مطر رحمة يسقي علاقات الأعداء لتزدهر وتربو الرياض الدبلوماسية بينهم، ومطر لعنة يولد السيول ويغسل الأرض من أمجادها والأوطان من أشرافها، إلا من رحم ربي، وعلى الأخير -بعد الله- المعتمد.
- نبض المطر..
أتعلميــــن أيَّ حـــزْنٍ يبعـــث المطــــر؟
وكيـــف تنشـــج المزاريـــب إِذا انهمـــــر؟
وكيــف يشعر الوحيد فيه بالضيــاع؟
بلا انتهـــاء - كالدَّم المـــراق، كالجيــــاع،
كالحـبّ، كالأطفال، كالموتى - هو المطر!
عرفنا للعرب تاريخاً مشرقاً على مر المراحل والعصور، كان للدولة الإسلامية على الأراضي العربية مجد عظيم، وقوة عظمى في العالم أجمع. فما سر الخنوع العربي، والتردّي العربي، والتخاذل العربي، أمام الهيمنة الخارجية التي استسلمنا لها وكأنها قدر لا مفر منه؟!!
سحقاً لتلك الدولة العثمانية خاطفة أضواء العرب، وأكبر الأسرار الكامنة في ذلك الخفوت العربي، والإقصاء العربي، وما تمخضت عنه اتفاقية «سايكس بيكو» في أعقابها من انسلاخ عربي في جسم الإمبراطورية «الإسلامية» العثمانية، نزوعاً لدول عربية بوصاية أجنبية، والتي رغم استقلالها السياسي لاحقاً بصيغتيه الدستورية والقانونية، إلا أنه استقلال أجوف، وقاصر في حقيقته، جعلنا نجتر يوماً تلو الآخر أذيال الهزيمة.
ورغم أن تلك الهيمنة الخارجية تهدد باستمرار دولنا العربية من حيث كياناتها الجغرافية، إلا أن الخطر الحقيقي الذي علينا حمايته فعلياً ثرواتنا الطبيعية ومواردنا البشرية، اللذان لطالما كانا محركاً للأطماع في المنطقة، ومسوغاً لابتزازنا واستغلالنا وزعزعة أمننا ووحدتنا. وعندما نحقق لثرواتنا ومواردنا ما يلزمهما من حماية وتنمية شاملة، أعتقد بإمكانية إعادة نهضتنا.
إنه المطر.. نبش الجراح، فاستدعتني «أنشودة المطر» لبدر شاكر السياب، راغمةً للغوص في أعماق الجرح العربي، والنزف العربي، والبتر المتواصل في الجسم العربي المتهالك..
(تثـــــاءب المســـــاء، والغيـــــومُ مـــــا تــــزالْ
تسح ما تسح من دموعها الثقالْ
كأنِّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام:
بأنَّ أمه – التي أفاق منذ عامْ
فلم يجدها، ثمَّ حين لجّ في السؤال
قالوا له: «بعد غدٍ تعودْ..»
لابدَّ أن تعودْ).
ثم إنني التقيت بميخائيل نعيمة في عمق الجرح العربي الغائر:
(أخي! قد تم ما لو لم نشأْه نحن ما تما
وقد عم البلاء ولو أَردنا نحن ما عما
فلا تندب فأُذن الغير ِ لا تصغي لشكوانا
بل اتبعني لنحفر خندقاً بالرفش والمعول
نواري فيه موتانا).
وقبل أن أحمل معه الرفش والمعول، استطرد:
(أخي! من نحن؟ لا وَطن ولا أَهل ولا جار
إذا نمنا، إذا قمنا ردانا الخزي والعار
لقد خمت بنا الدنيا كما خمت بموتانا
فهات الرفش وأتبعني لنحفر خندقاً آخر
نوارِي فيه أَحيانا).
وما الأحياء إلا أموات فوق الأرض؟! فلم لا ندفنهم كذلك، كما دفنوا مجد العرب؟!!
تحيط بالدول العربية الأطماع من كل صوب وناحية؛ هيمنة أوروبية وأمريكية، احتلال صهيوني، أطماع وغزو إيراني، احتلال تركي عبر التاريخ ويلوح في المستقبل مجدداً بوضوح، وأخطار أخرى متفرقة. إننا بحاجة لوعي عربي جمعي، ينفض أسمال الخيبة، ويتجرد من خنوعه المنقوع بالذل والمهانة، في نبذ للانشطار العربي والتشظي العربي، بما يلقي بنا في جب الضياع، «سنصبح نحن يهود التاريخ، ونعوي في الصحراء بلا مأوى»: قالها مظفر.
مشكلة الدول العربية أنها تواجه في الداخل دولاً كبرى كذلك من أصحاب طموح المد التوسعي، وباعتقادي فإن ذلك الطموح رغم كل ما يحققه من إيجابيات ومكاسب ودعم لمواقف بعض الدول «الهدف الاستعماري» أو حماية لها، إلا أنه كذلك مسوغ لكثير من الحذر والتجنب اللذين يحولان دون الاتفاق والشراكة واتحاد الهدف والهم المشترك ووحدة المصير.
فهل للأمة العربية أن تتدارك الأمر بالعمل على النهضة من الداخل انطلاقاً لفضاءات الخارج العربي الرحب، وعلى كل الأصعدة والمقاييس؟ برأيي فإن صفعات أخيرة بحرينية وسعودية ومصرية -بتعاون إماراتي- على الخد الغضّ كانت واحدة من مؤشرات اتحاد المواقف السياسية بما يؤكد على وحدة المصير. كما إن اهتمام المملكة العربية السعودية مثلاً بالبحث العلمي وتطبيقاته الطموحة لمنافسة أسلحة العدو العلمية والتكنولوجية وغيرها، وكذلك تجربة دبي -والإمارات كلها على الطريق- في النهضة الاقتصادية والسياحية بما يمنح المنطقة ثقلاً نوعياً مختلفاً؛ إنما هي بوادر لذلك النماء الجديد لنهضة العرب إذا ما استغل جيداً. ومتى ما اتحدت الجهود وتكاتفت الخبرات والتجارب، سنصل لوطن عربي أسمى قادر على مواجهة الصعاب، نعيد من خلاله مجد العروبة المنسحقة.
إنه المطر.. مناسبة هذا المقال، والشعور بالضياع في عالم عربي كبير.. صغير.. مجتزأ. مطر رحمة يسقي علاقات الأعداء لتزدهر وتربو الرياض الدبلوماسية بينهم، ومطر لعنة يولد السيول ويغسل الأرض من أمجادها والأوطان من أشرافها، إلا من رحم ربي، وعلى الأخير -بعد الله- المعتمد.
- نبض المطر..
أتعلميــــن أيَّ حـــزْنٍ يبعـــث المطــــر؟
وكيـــف تنشـــج المزاريـــب إِذا انهمـــــر؟
وكيــف يشعر الوحيد فيه بالضيــاع؟
بلا انتهـــاء - كالدَّم المـــراق، كالجيــــاع،
كالحـبّ، كالأطفال، كالموتى - هو المطر!