يجمع العالم على أهمية البحث العلمي في تقدم الدول ونهضتها، وفي ارتقاء الحضارات وتطورها، فيما تتباين جدية الاستفادة منه نظراً لعدة عوامل، يأتي في مقدمتها غياب السياسة العلمية عن بعض الدول، لاسيما في دولنا العربية، فضلاً عن البون الشاسع ما بين سخاء بعض الدول في الإنفاق على البحث العلمي، وشحّ أخرى. ولعل أبسط ما يؤكد الأمر، إحصائيات اليونسكو لعام 2004، والتي أشارت إلى أن الدول العربية مجتمعة قد خصصت للبحث العلمي ما يعادل 1.7 مليار دولار فقط، أي ما نسبته 0.3% من الناتج القومي الإجمالي، فيما خصصت «إسرائيل» وحدها للإنفاق على البحث العلمي بنفس العام، ما نسبته 4.7% من ناتجها القومي الإجمالي.
ولعل أبسط ما يمكننا اتخاذه في البحرين خصوصاً، تفعيل نشاط مركز «دراسات» بشكل أكبر، وإنشاء عدد من المراكز المشابهة -عامة ومتخصصة، مع ضرورة التأسيس لإدارات الدراسات والبحوث في جميع المؤسسات الحكومية والمؤسسات الخاصة الكبرى؛ ليتم اتخاذ القرارات السليمة بناءً على ما يفرزه نشاطها من بحوث في مجال اختصاص المؤسسة، تلك القرارات المدعمة بإحصائيات ووثائق توضح مبرراتها ومرتكزاتها، نأياً عن الاعتباطية والعشوائية في الإدارة. ومن أجل تحقيق الهدف المنشود بمهنية وموضوعية بالغة، لابد أن تخضع تلك الإدارة لمكتب الوزير مباشرة كما يجب أن تكون عليه إدارة العلاقات العامة والإعلام.!!
ونظراً لما يتمتع به البحث العلمي من أهمية في التخطيط الاستراتيجي وفي صناعة القرار السياسي على وجه الخصوص، فإننا نتطلع لمزيد من التمويل والدعم الجاد للبحث العلمي في بلداننا، غير أنه لابد من وضع الحلول الطارئة قبيل إقرار ذلك الدعم المنشود ووضعه على أجندة ميزانيات الأعوام المقبلة؛ فالواقعية تقتضي منا التعامل مع ما هو موجود عوضاً عن الندب على المفقود، وهو ما يدعو للتركيز بشكل أكبر على ما أفرزته الجامعات المحلية من دراسات رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه، في مختلف التخصصات وفي ما يتعلق بشؤون عدد كبير من المؤسسات الحكومية والخاصة.
وأدعو بذلك للاستفادة من تجربة الحكومة العراقية السابقة في ما يتعلق بأوجه الاستفادة من البحث العلمي، حيث تقوم وزارة التخطيط العراقية على وضع أجندة احتياجاتها من البحوث العلمية بصفة دورية، لتقدمها للجامعات كمقترح العناوين والقضايا المهمة الجديرة بالدراسة، ويكون الخيار مفتوحاً للباحثين من الهيئة التعليمية أو من طلبة الدراسات العليا لمن أراد دراسة أحدها، وهو ما يلبي احتياجات الدولة من البحث العلمي دونما تعسف أو فرض.
يأتي في جانب آخر دور بارز للدائرة العلمية والتي تكلف بعض الأشخاص المتخصصين بحضور جميع المناقشات لنيل الدرجة العلمية، وذلك للتحقق من سلامة البحث ومنهجيته، وعليه يتم قبول البحث والأخذ به وفقاً للنظام المعمول به في العراق آنذاك، إذ يتم تصنيف البحوث وتقديمها لجهات الاختصاص من وزارات ومؤسسات الدولة.
تمنح كل من الدائرة العلمية ووزارة التخطيط الجهة المعنية بالبحث العلمي مهلة ثلاثة شهور لترفع تقريرها بمدى الاستفادة من البحث ونتائجه وتوصياته، بإشراف من الدائرة العلمية، لتلحقها خطوة أخرى وهي العمل بنتائج وتوصيات البحوث عملاً بالتقرير المرفوع من قبل تلك الجهة، وهو ما يترتب عليه منح مهلة أخرى تتناسب مع حجم الاستفادة وآليات تنفيذها، ثم تتم متابعة الدائرة العلمية لخطوات التنفيذ وما حققته من نتائج، فإن لم يتم التنفيذ حسبما يجب أو لم يفض للنتائج المرجوة، تحاسب المؤسسة على تقصيرها وتراخيها في الأخذ بتوصيات البحوث العلمية.
باعتقادي.. إننا لو استفدنا من هذه التجارب مجتمعة لحققنا تطوراً نوعياً لافتاً في فترة زمنية قصيرة. إن الحديث سابقاً عن دبي نموذجاً في مجال التخطيط الاستراتيجي، وعن «إسرائيل» وأمريكا والاتحاد الأوروبي وغيرهم في مجال البحث العلمي وصناعة القرار، كلها من مقومات نجاح الدولة، أي دولة. وإننا إن حققنا النموذج العراقي في مجال البحث العلمي فإنه لابد أن نعمل على مستوى عالٍ من الإلزام للمؤسسات بتنفيذه، ولعل من أجمل أنواع المحاسبة والإلزام ما جاء في تصريح لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، قال فيه: «أعطينا مهلة سنتين للجهات الحكومية لتنفيذ مشروع الحكومة الذكية، ووعدنا المسؤولين الذين لا يحققون الهدف أن نقيم لهم حفل وداع بنهاية هذه المدة ونصفق لهم».
وقبل أن نعمل على مبدأ الإلزام والمحاسبة علينا لزاماً التنبه لأهمية إجراء البحوث الموضوعية، بما لا يصب في مصلحة مسؤول أو يتلاعب بالنتائج لتلميع صورة المؤسسة ومنتسبيها على حساب المصداقية، فإننا إن نتطلع للاستفادة من التجربة البحثية في «إسرائيل» وكذلك أمريكا، فإننا حتماً لا نعني ولا نطمح لذلك النوع المعروف بـ»الاستشراق الكولونيال» والذي يسمي إدوارد سعيد ممارسيه «الخدام الفكريين» لزعماء الإمبراطورية، تلك المجموعة التي عرفت بخيانتها لرسالتها العلمية وخروجها عن الموضوعية والحيادية البحثية نزوعاً لتنفيذ «البحوث الملفقة» لتحقيق غايات محددة. من هنا فقط يمكننا الانطلاق في فضاءات الرؤى الثاقبة والقرارات السليمة، بما يمكننا أولاً وأخيراً من تحقيق هدفنا الأسمى وهو الارتقاء بمملكتنا البحرين.
- آخر النبض..
فلنكن كالسفن التجارية المحملة بالبضائع الثمينة والتي تفرغ بعضاً من محتواها على أحد الموانئ لتتزود بحمولة جديدة من بضائع تلك الدولة، فإذا ما وصلت لمرساها الأخير تجدها محملة بصنوف نادرة وبأثمن ما اشتهرت به كثير من الدول التي مرّت بها في رحلتها..
فلنكن كالطائرة في هبوطها المؤقت في بعض محطات «الترانزيت» المهمة في رحلتها، ولنتزود بالأجود من كل أرجاء العالم، لنخرج بثراء ما تأتي بها الرحلات جميعاً، جامعةً أفضل التجارب وأبرز الإبداعات الفكرية. فإذا ما حطت في مطارها الأخير لتفرغ حمولتها من حصيلة تجاربها ومكتسباتها العلمية الزاخرة تفترش للراكب «المواطن» مستقبلاً أفضل في بلد أفضل اسمه «البحرين».
{{ article.visit_count }}
ولعل أبسط ما يمكننا اتخاذه في البحرين خصوصاً، تفعيل نشاط مركز «دراسات» بشكل أكبر، وإنشاء عدد من المراكز المشابهة -عامة ومتخصصة، مع ضرورة التأسيس لإدارات الدراسات والبحوث في جميع المؤسسات الحكومية والمؤسسات الخاصة الكبرى؛ ليتم اتخاذ القرارات السليمة بناءً على ما يفرزه نشاطها من بحوث في مجال اختصاص المؤسسة، تلك القرارات المدعمة بإحصائيات ووثائق توضح مبرراتها ومرتكزاتها، نأياً عن الاعتباطية والعشوائية في الإدارة. ومن أجل تحقيق الهدف المنشود بمهنية وموضوعية بالغة، لابد أن تخضع تلك الإدارة لمكتب الوزير مباشرة كما يجب أن تكون عليه إدارة العلاقات العامة والإعلام.!!
ونظراً لما يتمتع به البحث العلمي من أهمية في التخطيط الاستراتيجي وفي صناعة القرار السياسي على وجه الخصوص، فإننا نتطلع لمزيد من التمويل والدعم الجاد للبحث العلمي في بلداننا، غير أنه لابد من وضع الحلول الطارئة قبيل إقرار ذلك الدعم المنشود ووضعه على أجندة ميزانيات الأعوام المقبلة؛ فالواقعية تقتضي منا التعامل مع ما هو موجود عوضاً عن الندب على المفقود، وهو ما يدعو للتركيز بشكل أكبر على ما أفرزته الجامعات المحلية من دراسات رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه، في مختلف التخصصات وفي ما يتعلق بشؤون عدد كبير من المؤسسات الحكومية والخاصة.
وأدعو بذلك للاستفادة من تجربة الحكومة العراقية السابقة في ما يتعلق بأوجه الاستفادة من البحث العلمي، حيث تقوم وزارة التخطيط العراقية على وضع أجندة احتياجاتها من البحوث العلمية بصفة دورية، لتقدمها للجامعات كمقترح العناوين والقضايا المهمة الجديرة بالدراسة، ويكون الخيار مفتوحاً للباحثين من الهيئة التعليمية أو من طلبة الدراسات العليا لمن أراد دراسة أحدها، وهو ما يلبي احتياجات الدولة من البحث العلمي دونما تعسف أو فرض.
يأتي في جانب آخر دور بارز للدائرة العلمية والتي تكلف بعض الأشخاص المتخصصين بحضور جميع المناقشات لنيل الدرجة العلمية، وذلك للتحقق من سلامة البحث ومنهجيته، وعليه يتم قبول البحث والأخذ به وفقاً للنظام المعمول به في العراق آنذاك، إذ يتم تصنيف البحوث وتقديمها لجهات الاختصاص من وزارات ومؤسسات الدولة.
تمنح كل من الدائرة العلمية ووزارة التخطيط الجهة المعنية بالبحث العلمي مهلة ثلاثة شهور لترفع تقريرها بمدى الاستفادة من البحث ونتائجه وتوصياته، بإشراف من الدائرة العلمية، لتلحقها خطوة أخرى وهي العمل بنتائج وتوصيات البحوث عملاً بالتقرير المرفوع من قبل تلك الجهة، وهو ما يترتب عليه منح مهلة أخرى تتناسب مع حجم الاستفادة وآليات تنفيذها، ثم تتم متابعة الدائرة العلمية لخطوات التنفيذ وما حققته من نتائج، فإن لم يتم التنفيذ حسبما يجب أو لم يفض للنتائج المرجوة، تحاسب المؤسسة على تقصيرها وتراخيها في الأخذ بتوصيات البحوث العلمية.
باعتقادي.. إننا لو استفدنا من هذه التجارب مجتمعة لحققنا تطوراً نوعياً لافتاً في فترة زمنية قصيرة. إن الحديث سابقاً عن دبي نموذجاً في مجال التخطيط الاستراتيجي، وعن «إسرائيل» وأمريكا والاتحاد الأوروبي وغيرهم في مجال البحث العلمي وصناعة القرار، كلها من مقومات نجاح الدولة، أي دولة. وإننا إن حققنا النموذج العراقي في مجال البحث العلمي فإنه لابد أن نعمل على مستوى عالٍ من الإلزام للمؤسسات بتنفيذه، ولعل من أجمل أنواع المحاسبة والإلزام ما جاء في تصريح لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، قال فيه: «أعطينا مهلة سنتين للجهات الحكومية لتنفيذ مشروع الحكومة الذكية، ووعدنا المسؤولين الذين لا يحققون الهدف أن نقيم لهم حفل وداع بنهاية هذه المدة ونصفق لهم».
وقبل أن نعمل على مبدأ الإلزام والمحاسبة علينا لزاماً التنبه لأهمية إجراء البحوث الموضوعية، بما لا يصب في مصلحة مسؤول أو يتلاعب بالنتائج لتلميع صورة المؤسسة ومنتسبيها على حساب المصداقية، فإننا إن نتطلع للاستفادة من التجربة البحثية في «إسرائيل» وكذلك أمريكا، فإننا حتماً لا نعني ولا نطمح لذلك النوع المعروف بـ»الاستشراق الكولونيال» والذي يسمي إدوارد سعيد ممارسيه «الخدام الفكريين» لزعماء الإمبراطورية، تلك المجموعة التي عرفت بخيانتها لرسالتها العلمية وخروجها عن الموضوعية والحيادية البحثية نزوعاً لتنفيذ «البحوث الملفقة» لتحقيق غايات محددة. من هنا فقط يمكننا الانطلاق في فضاءات الرؤى الثاقبة والقرارات السليمة، بما يمكننا أولاً وأخيراً من تحقيق هدفنا الأسمى وهو الارتقاء بمملكتنا البحرين.
- آخر النبض..
فلنكن كالسفن التجارية المحملة بالبضائع الثمينة والتي تفرغ بعضاً من محتواها على أحد الموانئ لتتزود بحمولة جديدة من بضائع تلك الدولة، فإذا ما وصلت لمرساها الأخير تجدها محملة بصنوف نادرة وبأثمن ما اشتهرت به كثير من الدول التي مرّت بها في رحلتها..
فلنكن كالطائرة في هبوطها المؤقت في بعض محطات «الترانزيت» المهمة في رحلتها، ولنتزود بالأجود من كل أرجاء العالم، لنخرج بثراء ما تأتي بها الرحلات جميعاً، جامعةً أفضل التجارب وأبرز الإبداعات الفكرية. فإذا ما حطت في مطارها الأخير لتفرغ حمولتها من حصيلة تجاربها ومكتسباتها العلمية الزاخرة تفترش للراكب «المواطن» مستقبلاً أفضل في بلد أفضل اسمه «البحرين».