شخصياً لست متفقة مع «أسلوب» عرض آخر حلقة من حلقات برنامج باسم يوسف، فعلى الرغم من أن البرنامج يمتلك أسلوباً طريفاً في انتقاد التيارات السياسية من داخلها إلا أن تلك الحلقة، التي فُهم منها أنها تنتقد الفريق الأول عبدالفتاح السيسي، أفرطت في التصريحات الجنسية بصورة تنم عن الذوق العام والذائقة الفنية. لكن هل كان «منطق» الحلقة صحيحاً، أم أنه كان مضاداً لمشاعر طيف واسع من المصريين؟ وهل طرح السؤال بهذه الصيغة صحيح أم أن السؤال في حد ذاته ذو تركيبة ملتبسة؟!ربما كان تحرير مصر من حكم الإخوان المسلمين ضرورة مصيرية لتخرج مصر من النفق المظلم الذي احتجزها الإخوان فيه، وربما يكون الفريق السيسي قد ضرب نموذجاً مفقوداً لصورة القائد العسكري/السياسي المحنك الذي أدار الأزمة بشجاعة وبكفاءة جنبت الجيش المصري تحمل المسؤولية الكاملة لتبعات إسقاط حكم الإخوان و«ورطت» الشعب المصري في نتائج اختياره للإخوان ومن ثم المطالبة بإسقاطهم. يمتلك الفريق السيسي خطاباً سياسياً منحازاً للشعب المصري ولإرادته، ومستقوياً في مواجهة التدخلات الخارجية والضغوطات الدولية. كما أن ظهوره في وسائل الإعلام وفي الحياة السياسية مدروس بدقة عسكرية شديدة، وهو يتخذ القرارات بشفافية عالية ومبرَّرة. وهذا ما جعله يحظى بثقة الكثير من الشعب المصري وبمحبتهم. ولكن... هل «تُشرعن» المبررات السابقة لحالة التبجيل الغريبة التي يُحاط بها شخص السيسي؟ ألم يقم الفريق السيسي بواجبه الذي تفرضه عليه طبيعة الجيش المصري الذي ظل عبر السنوات الطويلة جيشاً وطنياً ينحاز للأمن القومي المصري ولخيار الشعب المصري وحمايته؟. إن أول من واجه الحرج من الحملة الترويجية وحالة التبجيل والتعظيم لشخصية السيسي هو السيسي نفسه: فقد تعهد بعدم ترشحه لأي انتخابات رئاسية، واليوم هو يواجه ضغوطاً شعبية شديدة بمطالبته للترشح للانتخابات الرئاسية القادمة، ويزيد من هذا الحرج عجز أي من النخب المصرية عن تقديم بديل منافس للشخصية القوية التي ظهر بها السيسي، الأمر الذي يجعله، إن هو رفض الترشح للانتخابات، بين سندان مخالفة رغبة الشعب المصري ومطرقة «مسؤولية» احتمال فشل الرئيس القادم عن تحقيق مطالب الشعب!!. ومن جهة أخرى فإن رضوخه لمطالب ترشحه ستضعه بين سندان النكث بوعده السابق ومطرقة العجز عن تحقيق طموح المصريين الجامح في النهوض بمصر إن لم يستطع الوفاء به!!؛ لذلك فإن «منطق» حلقة باسم يوسف الأخيرة كان منطقاً سديداً، غير أنه أسرف في «الأداة الجنسية» التي عبر بها، فالشعب المصري يقوم بعملية تتجاوز «صناعة رمز» إلى إنتاج دكتاتور محتمل يسلمه الشعب كل مقاليد التقدير والطاعة على شيك من بياض قبل أن يمتحن حكمه وإدارته لشؤون الدولة المدنية.في المقابل تجد الإخوان المسلمين ومن لف لفهم يتحدثون بثقة مطلقة عن الانقلاب العسكري وعن حكم العسكر، وخطورة أن يتسيد الجيش المشهد السياسي. وحين تختبر الواقع السياسي في مصر تجد ملايين الشعب انتفضت في 30 يونيو ضد الإخوان، وأن الجيش قد طالب النخب السياسية بتحمل مسؤوليتها ونزع فتيل الأزمة، ثم اضطر إلى قيادة خارطة طريق ضمت شيخ الأزهر وبابا الكنيسة وجميع الأحزاب السياسية ماعدا الأخوان المسلمين، ثم تولت إدارة الحكم حكومة انتقالية مدنية وفق ما يرتبه دستور «الإخوان»، الأمر الذي يُخرج العملية السياسية من الانقلاب إلى ما يشبه الاستعانة بمشورة أهل «الحل والعقد» في البلاد. وسنجد، كذلك، أن الإخوان يقودون حملة للإرهاب والشغب انتهت بحرق مبنى في جامعة الأزهر ثم يتحدثون عن الدولة الأمنية والقبضة البوليسية!!، فكيف تستقيم تلك التوازنات؟ وكيف يقبلها أتباع الإخوان والمتعاطفون معهم يروجون لها؟إن هذه العملية في حقيقة الأمر هي «صناعة عدو» محتمل، وهو مؤسستي الجيش والأمن التي يجري التشكيك فيهما وضربهما لزعزعة الأمن بصورة مستمرة، وعملية «صناعة العدو» هي الوجه الآخر لعملية «إنتاج الدكتاتور»، وكلتاهما خارج المعايير والمقاييس الواقعية والمنطقية وتخضعان لخصوبة المخيال العربي في الإنتاج والتلقي استناداً إلى الخلفيات المعرفية السلبية السابقة، وهما يثبتان أن الشعوب العربية مازالت شعوباً عاطفية تعيش طفولة سياسية تغلب عليها المزاجية والذاتية والانجراف خلف الحملات الترويجية مع أو ضد، فقد ترى الصورة بدلالة ما، لكنها تنجرف خلف التعليق العاطفي الذي يستثمره أصحاب المصالح والمطامع لتحقيق غاياتهم.ليست المشكلة في الفريق عبدالفتاح السيسي، فقد أدى واجبه الوطني بحرفية واقتدار، المشكلة في الشعب المصري وفي الشعوب العربية التي لم تتمكن بعد من صياغة طموحاتها ولم تُقاربها من الواقع والممكن، والتي مازالت تجري خلف الشعارات وتصدق الدعايات وتخلق الدكتاتوريات وتتوهم الأعداء. والمشكلة الحقيقية في النخب الفكرية والسياسية التي انزوت في أبراجها العاجية وانخرطت أحيانا خلف طموحاتها، ولم تقم بوظيفتها التوعوية والتنويرية التي ستختصر على الشعوب العربية معاناة تجريب الأنظمة والرموز والفشل المتكرر أو المتوقع.