كلنا نلحظ أن تعامل السلطتين التنفيذية والتشريعية مع تقرير ديوان الرقابة المالية هذه المرة مختلف، فما هي الأسباب؟
في اعتقادي أن الدور النشط الذي قامت به السلطة الرابعة الممثلة في المجتمع المدني بإعلامه الصحافي والفردي -بعد أن نأخذ في الاعتبار تنامي الدور الفردي كمؤثر في عملية صناعة القرار عبر وسائل التواصل الاجتماعي- كان سبباً رئيساً هذه المرة لأنه لم يغفل كما هي المرات السابقة ولم ينم وأحصى كل صغيرة وكبيرة في عمل السلطتين التنفيذية والتشريعية وضغط عليها مما حرك المياه الراكدة ودفع جميع السلطات إلى أن «تصحصح» فلا تغفل هي الأخرى.
الجميع -بما فيهم السلطة التنفيذية ذاتها ماعدا الجمعيات السياسية- كان صاحياً هذه المرة، فتلك الجمعيات غشيها السبات وكأن من أمامهم سداً ومن خلفهم سداً فاغشيانهم فهم لا يبصرون لا تقرير الديوان ولا الحساب الختامي ولا السؤال المليار دفعهم لعقد ندوة واحدة تناقش هذه المواضيع، وحتى البرلمان لم يصحُ ويستمر -على الأقل- بتصريحاته هذه المرة إلا لثلاثة أسباب الأول أنه دور الانعقاد الأخير ومن بعده الانتخابات والتسخين ضروري، والسبب الثاني أن الضغط الشعبي كان قوياً هذه المرة، وربما السبب الثالث أنه من المخجل أن تشكل السلطة التنفيذية هذه المرة لجنة لمحاسبة نفسها والنواب يتفرجون، لهذه الأسباب «تلحلح» النواب وإلا كان مصير هذا التقرير كسوابقه، لجنة فتقرير فنوم وغفوة، والسلطة التنفيذية تعيش نعيم الراحة.
كل جهة تتحمل مسؤولية ما، وزارة كانت أو نيابة كانت أو حتى قضاء كان، ممكن أن تتراخى وممكن أن يتسرب لها الخمول أو حتى الفساد إن لم توجد عين رقيبة لا تغفل ولا تترك صغيرة ولا كبيرة إلا وتحصيها عليها، هذه سنة الحياة وهذه هي الطبيعة البشرية.
و«الرقابة» هي واحدة من مبادئ الديمقراطية التي نسعى لها، وآلياتها هي تنشيط «جميع» الأدوات الرقابية في الدولة -لا البرلمانية فحسب- على أداء السلطات، فالأدوات الديمقراطية الرقابية تتجاوز بكثير ولا تقف عند السلطة البرلمانية.
فالديمقراطية وإن كانت كوسيلة من وسائل إدارة الدولة إلا أن أساسها وعمودها الفقري هو أنها تبنى على مبدأ توازن السلطات، توازنها بالرقابة على بعضها بعضاً «شيك آند بلانس» والرقابة الشعبية هي أمضى أدواتها وأهمها فهي المظلة التي تمتد إلى جميع السلطات بلا حواجز وأطر تمنعها سوى ضوابط حق التعبير المتعارف عليها.
أما أن ينام المجتمع ويكتفي بالهمهمة والشكوى و«التحلطم» فحينها لا يستحق أن يتذمر من الفساد ومن الهدر في المال العام. بقي أن نقول إن الرقابة عملية مستمرة وليست صحوة الموت ما أرى، أو غفوة الحياة، ليست ومضة وتنطفئ، ميزة النجاح في دور المجتمع الرقابي أنه دور متواصل بنفس الزخم لا يستهان بإمكاناته أو قدراته أو تأثيره، لذلك لا يجب أن يخفت أثر الضغط الشعبي بعد إحالة المخالفات إلى النيابة لأن من ارتكبها من الموظفين الصغار، فتلك خطوة حميدة إنما لا يجب أن توقفنا عن المساءلة السياسية للوزراء عن هذه التجاوزات التي وقعت ضمن حدود ونطاق اختصاصهم، ولا توقفنا عن السؤال عن مصير باقي المليار؟ فإن تخاذل النواب فالرقابة الشعبية يجب أن تبقى صاحية ولا تسكت.