يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله: «حدثني رجل كبير القدر صادق اللهجة، قال: كنت في لندن، فرأيت صفاً طويلاً من الناس يمشي الواحد منهم على عقب الآخر ممتداً من وسط الشارع إلى آخره، فسألت فقالوا: إن هنا مركز توزيع وإن الناس يمشون إليه صفاً كلما جاء واحد أخذ آخر الصف فلا يكون تزاحماً ولا تدافعاً ولا يتقدم أحد دوره ولو كان الوزير، ولو كان أمامه الكناس، وتلك عادتهم في كل مكان على مدخل الكنيسة وعلى السينما وأمام بائع الجرائد وعند ركوب الترام أو صعود القطار. قال: ونظرت فرأيت في الصف كلباً في فمه سلة وهو يمشي مع الناس كلما خطوا خطوة خطا خطوة لا يحاول أن يتعدى دوره أو يسبق من أمامه، ولا يسعى من ورائه ليسبقه ولا يجد غضاضة أن يمشي وراء كلب ما دام قد سبقه الكلب. فقلت: ما هذا؟ قالوا: كلب يرسله صاحبه بهذه السلة وفيها الثمن والبطاقة فيأتيه بنصيبه من الإعاشة. لما سمعت هذه القصة خجلت من نفسي أن يكون الكلب قد دخل النظام وتعلم آداب المجتمع، ونحن لانزال نبصر أناساً في أكمل هيئة وأفخم زي تراهم فتحسبهم من الأكابر، يزاحمونك ليصعدوا الترام قبلك بعدما وضعت رجلك على درجته، أو يمدون أيديهم من فوق رأسك إلى شباك البريد وأنت جئت قبلهم، وأنت صاحب الدور دونهم، أو يقفزون ليدخلوا قبلك على الطبيب وأنت تنتظر متألماً لساعتين، وهم إنما وثبوا من الباب إلى المحراب، خجلت من رجال لم يتعلموا الانتظام الذي تعلمته الكلاب!».
إذا كانت هناك ثمة مشكلة في حياتنا تحول دون تحقيق الإنجازات والنجاحات، وتسبب ثمة إحباطات حياتية متتالية، أو تكون حجر عثرة أمام وجود القبول الاجتماعي وتناميه عند الأفراد، فإنما مصدر ذلك كله ما نسميه إن جاز التعبير «العبث الحياتي» أو العبث بالأوقات وبالسلوك الاجتماعي والفوضى الخلاقة التي لم يتعلم صاحبها يوماً ما معاني «النظام» والإحساس بقيمة النعم التي أعطاه الله تعالى إياها وفي مقدمتها «الوقت»، فالبعض لايزال يرى منظومة الوقت مجرد تحصيل حاصل في حياته، فلا يأبه بأن يحولها إلى «قيمة لها مكانتها» ولا سلوك مشاهد يستطيع من خلاله أن يفرض احترامه في المجتمع، ويحول كل أفكاره وقناعاته إلى مشروعات ناجحة ولوحات رائعة تكون نبراس خير للأجيال المتعاقبة.
فصاحبنا لا يلتفت إطلاقاً إلى قيمة الوقت، فترى أوقاته تضيع سدى فيما لا فائدة فيه، في البيت وفي العمل ومع الأصحاب وفي أوقات الفراغ، أوقات تضيع دون أي إنتاجية تذكر، فإن سألته ما هي إنجازاتك في اليوم، يجيبك ببرنامج روتيني، وجلسات فارغة، وعبث في الوقت بلا أي نظام، يقول الله تعالى في محكم التنزيل: «والعصر إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر». فهذه السورة كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يتفرقا حتى يتلو أحدهما السورة على الآخر. ويقول الإمام الشافعي عن هذه السورة: «لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم». فالله تعالى أقسم بالزمن للإنسان بأنه في خسر، فمضي حياتنا «المتسارعة» بدون ميادين للخير، لهي خسارة كبيرة لأوقات لن ترجع أبداً إلى يوم القيامة.
أما نظامنا وسلوكنا الاجتماعي فحدث ولا حرج، فإن البعض مازال يبني سلوكه على آخرين يخالفون النظام، أو يتحايلون عليه بحجة أنهم يفعلون ذلك ونحن معهم، فإن أمعنت النظر في «ذاته» أو في «إطار أسرته وأعماله» فترى فوضويته المزعجة في كل أموره، لذا ففاقد الشيء لا يعطيه، فترى كل من يسير معه في «المسير» لا يعرف للنظام قيمة أبداً إلا من رحمه الله، والأدهى من ذلك والأمر بأن تبرز أمامك تلك الفئات «الفوضوية» التي تحيل نظام البلد العام إلى منحدرات للعبث والتخريب والتشويه والتدمير، مما يعطي ضعاف النفوس الفرصة المواتية لتحقيق المآرب الدنيئة التي تسبب شرخاً كبيراً في قارب الوطن!!
كما تراه يتعالى على النظام ويعبر الشارع والإشارة حمراء، فهو أمر لا بأس عنده فغيره يعبر والإشارة حمراء وإن تسبب في حوادث مميتة لا سمح الله، وإن تجاوز طابور المهنئين في المناسبات فلا بأس لديه، فقط يبحث له عن أحد يعرفه في الأمام ثم يمضي للحديث معه وينضم للطابور وغيره ينتظر منذ فترة؟؟ وإن لاحظ الازدحام الشديد في الشارع، تحايل على الوضع وأخذ «مسار الطوارئ» ليصل إلى نقطة معينة يجبر صاحبها على إعطائه الفرصة لكي ينضم للمسار، وغير ذلك الكثير!!
إننا في مسيس الحاجة للنظر إلى «منظومة الحياة» بنظرات التعقل والحكمة بعيداً عن التهور والعبث الذي يدمر حياتنا جميعاً، نحتاج إلى إعادة البوصلة إلى موقعها المناسب حتى تعود حياتنا إلى «واحات من العطاء والإنجاز الممنهج» مليئة بالقيمة والثوابت الحياتية، وبسلوك ذاتي واجتماعي متميز، فقط اربط كل شيء بالأجر والمراقبة.
{{ article.visit_count }}
إذا كانت هناك ثمة مشكلة في حياتنا تحول دون تحقيق الإنجازات والنجاحات، وتسبب ثمة إحباطات حياتية متتالية، أو تكون حجر عثرة أمام وجود القبول الاجتماعي وتناميه عند الأفراد، فإنما مصدر ذلك كله ما نسميه إن جاز التعبير «العبث الحياتي» أو العبث بالأوقات وبالسلوك الاجتماعي والفوضى الخلاقة التي لم يتعلم صاحبها يوماً ما معاني «النظام» والإحساس بقيمة النعم التي أعطاه الله تعالى إياها وفي مقدمتها «الوقت»، فالبعض لايزال يرى منظومة الوقت مجرد تحصيل حاصل في حياته، فلا يأبه بأن يحولها إلى «قيمة لها مكانتها» ولا سلوك مشاهد يستطيع من خلاله أن يفرض احترامه في المجتمع، ويحول كل أفكاره وقناعاته إلى مشروعات ناجحة ولوحات رائعة تكون نبراس خير للأجيال المتعاقبة.
فصاحبنا لا يلتفت إطلاقاً إلى قيمة الوقت، فترى أوقاته تضيع سدى فيما لا فائدة فيه، في البيت وفي العمل ومع الأصحاب وفي أوقات الفراغ، أوقات تضيع دون أي إنتاجية تذكر، فإن سألته ما هي إنجازاتك في اليوم، يجيبك ببرنامج روتيني، وجلسات فارغة، وعبث في الوقت بلا أي نظام، يقول الله تعالى في محكم التنزيل: «والعصر إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر». فهذه السورة كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يتفرقا حتى يتلو أحدهما السورة على الآخر. ويقول الإمام الشافعي عن هذه السورة: «لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم». فالله تعالى أقسم بالزمن للإنسان بأنه في خسر، فمضي حياتنا «المتسارعة» بدون ميادين للخير، لهي خسارة كبيرة لأوقات لن ترجع أبداً إلى يوم القيامة.
أما نظامنا وسلوكنا الاجتماعي فحدث ولا حرج، فإن البعض مازال يبني سلوكه على آخرين يخالفون النظام، أو يتحايلون عليه بحجة أنهم يفعلون ذلك ونحن معهم، فإن أمعنت النظر في «ذاته» أو في «إطار أسرته وأعماله» فترى فوضويته المزعجة في كل أموره، لذا ففاقد الشيء لا يعطيه، فترى كل من يسير معه في «المسير» لا يعرف للنظام قيمة أبداً إلا من رحمه الله، والأدهى من ذلك والأمر بأن تبرز أمامك تلك الفئات «الفوضوية» التي تحيل نظام البلد العام إلى منحدرات للعبث والتخريب والتشويه والتدمير، مما يعطي ضعاف النفوس الفرصة المواتية لتحقيق المآرب الدنيئة التي تسبب شرخاً كبيراً في قارب الوطن!!
كما تراه يتعالى على النظام ويعبر الشارع والإشارة حمراء، فهو أمر لا بأس عنده فغيره يعبر والإشارة حمراء وإن تسبب في حوادث مميتة لا سمح الله، وإن تجاوز طابور المهنئين في المناسبات فلا بأس لديه، فقط يبحث له عن أحد يعرفه في الأمام ثم يمضي للحديث معه وينضم للطابور وغيره ينتظر منذ فترة؟؟ وإن لاحظ الازدحام الشديد في الشارع، تحايل على الوضع وأخذ «مسار الطوارئ» ليصل إلى نقطة معينة يجبر صاحبها على إعطائه الفرصة لكي ينضم للمسار، وغير ذلك الكثير!!
إننا في مسيس الحاجة للنظر إلى «منظومة الحياة» بنظرات التعقل والحكمة بعيداً عن التهور والعبث الذي يدمر حياتنا جميعاً، نحتاج إلى إعادة البوصلة إلى موقعها المناسب حتى تعود حياتنا إلى «واحات من العطاء والإنجاز الممنهج» مليئة بالقيمة والثوابت الحياتية، وبسلوك ذاتي واجتماعي متميز، فقط اربط كل شيء بالأجر والمراقبة.