العنوان أعلاه يقوم على ثلاثية ذات مغزى؛ فمصر هي محور السياسة العربية والإسلامية عبر العصور، بل محور السياسة العالمية عندما كانت في عصر ازدهار حضارتها الفرعونية. وروسيا وأمريكا هما القوتان الأعظم منذ الحرب العالمية الثانية، قبل تراجع روسيا لفترة بعد انهيار الشيوعية، وعادت مجدداً للقوة مع تولي فلاديمير بوتين رئاستها وأخذت تعود لقوتها، وإن كانت تمثل قوة عسكرية وسياسية، والأهم أنها قوة ثقافية وحضارية. أما من الناحية الاقتصادية فهي أقل مما كانت، ولكنها إحدى القوى العشر اقتصادياً على المستوى العالمي، ورغم تفوق الصين عليها اقتصادياً، فإن حساب القوة الشاملة يجعل روسيا هي القوة الثانية في العالم لتفوقها العسكري والعلمي والتكنولوجي في مجال الفضاء والمجال النووي وكذلك تاريخها الحضاري، منذ عهد القياصرة، ولست في مجال المقارنة أو المفاضلة بين هذه الدولة وتلك، وإنما هو من قبيل إحقاق الحق الذي يضيع في دهاليز السياسة اليومية أحياناً.
أما الولايات المتحدة فهي القوة العظمى في عالمنا المعاصر، وهي صاحبة أكبر حجم في الإنتاج العالمي، والإبداع الفكري، والمبتكرات والمخترعات أو التكنولوجيا، وصاحبة أكبر قوة عسكرية، حيث إن ميزانية الدفاع الأمريكي تزيد عن خمسمائة مليار دولار وبعدها الصين أكثر قليلاً من مائة مليار دولار سنوياً، ولكن حجم ميزانية الدفاع الأمريكية يفوق حجم أكثر من 15 دولة بعدها مجتمعة، ولذلك فهي القوة العظمى، لأن أساطيلها وقواعدها العسكرية منتشرة في مختلف مناطق العالم. وهي القوة الوحيدة التي على استعداد وقادرة على التدخل العسكري في أية بقعة من العالم بسهولة نسبية.
مصر تراجعت ليس فقط على المستوى الدولي العام فحسب؛ بل على المستوى الإقليمي أيضاً، إذ إن حضارة الفراعنة انتهت، ونهضة محمد علي تكالبت عليها الدول الأوروبية في القرن التاسع عشر لتدميرها، ونهضة جمال عبدالناصر واجهت نفس المصير، ولعل أحد أسباب ذلك كله هو الموقع الجيوستراتيجي الذي هو نعمة ونقمة في آن واحد.
لكن ما يميز مصر ثلاثة عناصر أولها العراقة التاريخية والحضارية، وهذه لها أثرها في طبيعة الشعب المصري. وثانيها الموقع الاستراتيجي وثالثها حيوية الشعب المصري ذاته، فهي حيوية منقطعة النظير، حيث يتم نهب ثرواته عبر العصور، ثم يعود مجدداً، ويتم تدمير قوته ثم يستردها ثانية. وتفاعل هذه العناصر الثلاثة هو ما يجعل لمصر مكانة خاصة إقليمياً وعالمياً، ويجعل تأثير قوتها الناعمة أكبر بكثير من تأثير قوتها الصلبة، وهذا يرتبط بقدرتها على الصمود واسترداد العافية بمرونة، ولديها قدرة على الإشعاع الثقافي والحضاري والإبداعي والسياسي، حتى وهي ضعيفة اقتصادياً وعسكرياً، أو حتى وهي تحت حكم أجنبي، فإن لديها قدرة عجيبة على التحرك باستقلالية مهما كانت نسبية، وهذا حدث بعد الغزو العثماني لمصر ونهب ثرواتها وصناعاتها ونقل الحرفيين المصريين قسراً للعاصمة العثمانية فسرعان ما استعادت قوتها واستوعبت الغزاة الذين ظلوا هامشيين، وهناك الكثير من الأمثلة التاريخية، لكن يكفي مثال واحد أن مصر بعد أن قاومت الحملة الفرنسية ثم خرجت تلك الحملة أصرت على اختيار حاكمها بإرادة شعبها، ورفضت الحاكم الذي عينته الدولة العثمانية صاحبة السلطة السياسية الرسمية على مصر، وطردت خلال خمس سنوات خمسة حكام، وأصرت على اختيار محمد علي لأنها وجدته الأصلح والأقرب إلى شعبها وفعلاً قادها لمرحلة من التقدم والنهضة.
المشكلة بين مصر وأمريكا ليست ثورة 30 يونيو 2013، والتخلص من حاكم جاء صدفة بخطأ تاريخي، وخداع باسم الدين، وباسم الشعب، ثم تحول إلى حاكم مملوكي يهتم ليس بالشعب المصري وإنما بعشيرته وجماعته، ونشر الفتنة بين أبناء الشعب الواحد من المسلمين وبينهم وبين المسحيين متجاوزاً مبادئ الإسلام السمح، ومتنازلاً عن التراب الوطني في وعوده، التي رددتها الصحف، للولايات المتحدة وإسرائيل وحماس وإيران وغيرها، بأساليب ملتوية ثم أطلق المسجونين القتلة ووضعهم في الصف الأول في احتفالات أكتوبر 2012 متحدياً مشاعر الجيش ومشاعر الشعب المصري، وجعل سيناء، التي هي خط الدفاع الأول عن مصر بؤرة للإرهاب بالسماح للقاعدة بالتواجد فيها، ولذلك ثار ضده الشعب المصري في أقل من عام عندما أدرك الخديعة التي وقع فيها.
الشعب المصري عبر العصور لا يهمه الحكم والسلطة ولا يهمه اسم الحاكم، وإنما يهمه نوعية الحاكم وسلوكه، ولذلك اختار محمد علي، وهذا من السمات الفريدة في هذا الشعب، منذ أن فقدت مصر حضارتها الفرعونية العريقة، كما آمن المصريون بحكمة عمرو بن العاص وأعجبوا بشجاعته فتمسكوا به وثاروا ضد غيره من الحكام حتى وإن ارتدوا الزى الديني. لذلك تولى سيدنا يوسف وزارة مالية مصر وأصبح متصرفاً في أموالها كما يروي القرآن الكريم.
مصر وروسيا أصدقاء منذ فترة عبدالناصر، وترتبط هذه الصداقة بجذور أسبق من تلك المرحلة، فالكنيسة المصرية أكثر قرباً من الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وحضارة روسيا القيصرية تأثرت كثيراً بالحضارة العربية الإسلامية، وحكام مصر من المماليك جاءوا من آسيا الوسطى القوقازية التي هي جزء من التراث الروسي.
روسيا تميزت كحضارة عالمية وكقوة سياسية أنها تسعى لإعادة التوازن العالمي في القرن التاسع عشر كما حدث في مؤتمر فيينا عام 1814م، وفي الحرب العالمية الأولى حيث فضحت روسيا بعد ثورة 1917 تآمر الدول الغربية (فرنسا، وبريطانيا في معاهدة سايكس بيكو) ولعبت روسيا دوراً في القضاء على النازية في الحرب العالمية الثانية. وبالنسبة لمصر كانت روسيا أكثر تفهماً لمصالح مصر في بناء السد العالي، الذي سحب البنك الدولي العرض لبنائه تحت ضغط أمريكا وفلسفتها في عهد جون فوستر دلاس وسياسته ضيقة الأفق، ووقفت روسيا إلى جانب مصر الحديثة في مقاومة العدوان الثلاثي عام 1956 وفي مقاومة الهزيمة بعد عام 1967م وحاربت مصر في عام 1973، وانتصرت نسبياً بأسلحة روسية، ولهذا لا عجب أن يعود التقارب المصري الروسي، ومصر تواجه محنة جديدة في أوضاعها الاقتصادية والسياسية والعسكرية وضغوط دولية معروفة.
أما الولايات المتحدة فتاريخها حديث، ولكنها قفزت بسرعة خلال أقل من قرنين من الزمان بفضل عناصر ثلاثة أولها الروح الكفاحية للمهاجرين من أوروبا الذين أبادوا الهنود الحمر، وأدخلوا التقدم في أمريكا، ثانيها الروح البروتستانتية التي كتب عنها المفكر اليكسي توكفيل، وماكس فيبر، والتي جعلت الولايات المتحدة نموذجاً للديمقراطية المعاصرة وللرأسمالية القوية، وثالثها تراجع القوى الدولية الأخرى وأخطاؤها الكبرى وخاصة أوروبا بسبب الحربين العالميتين، ولكن الولايات المتحدة افتقدت البعدين الحضاري والثقافي، واعتمدت أسلوب القوة التي استندت لضيق الأفق السياسي، والتي أطلق عليها السناتور الأمريكي المستنير وليم فولبرايت اسم «غطرسة القوة» وكتب كتابه المشهور بهذا الاسم.
ويعرف السياسيون الأمريكيون ثلاثة أمور؛ الأول الفكر السياسي الواقعي المستند لنظريات: الواقعية ولسياسة القوة، كما تحدث عنها عالم السياسة المشهور هانز مورجانثو في كتابه «السياسة بين الأمم»، ثم البروفسور هولستى، وكيسنجر وسكو كروفت وبريجنسكي وغيرهم. وهم ينظرون للعالم على أساس نظرية توازن القوى التي سادت في أوروبا القرن التاسع عشر، ونظرية الاحتواء التي تحدث عنها جورج كينان وغيرهم. النظرية الواقعية في السياسة تركز على القوة، وتتجاهل البعد الحضاري كما تتجاهل المدرسة السلوكية التي ظهرت في أمريكا نفسها، ومن ثم تقع في أخطاء جسام، وتسيء لنفسها وتضيع مكاسبها. الأمر الثاني في السياسة الخارجية الأمريكية أنها أسيرة السياسة الداخلية وبطريقة ضيقة الأفق، فتحولت السياسة الخارجية لتصبح رهينة اللوبي اليهودي، لتأثيره الداخلي اقتصادياً وإعلامياً وسياسياً، وفي العملية الانتخابية. وللأسف هذا اللوبي اليهودي أصبح بدوره أسيراً للسياسة الإسرائيلية. رغم أن بعض العناصر اليهودية المثقفة لديها أفق أوسع، ولكن الأغلبية تساير الأفق الإسرائيلي الضيق، والأمر الثالث السياسة الأمريكية بما في ذلك كثير من أجهزة الاستخبارات، رغم تقدمها التكنولوجي نقول تتسم بالسذاجة، في اتخاذ القرار وفهم الأمور، ويمكن خداعها بسهولة، كما حدث في غزوها للعراق، ونشر الطائفية تحت تأثير القوى الطائفية العراقية والإيرانية التي خدعت السياسة الأمريكية، وهو نفس ما حدث بالنسبة للقوى الإخوانية في خداعها السياسة الأمريكية. بتصوير إنها القوة الصاعدة وإنها قوة علمانية ومعتدلة فلما وصلوا السلطة ظهروا على حقيقتهم وهو نفس ما حدث في الحكم الطائفي في العراق.