في المناسبات التاريخية المهمة، ينبغي على المرء ألا ينسى الإعراب عن التهنئة للأعياد التي تعيش البحرين فيها في خلال شهر ديسمبر من كل عام، وهي ذكرى عزيزة غالية على نفس كل مواطن بل على نفس كل من يعرف البحرين، ويرتبط بها وبشعبها مثلي الذي جاء إلى هذه الأرض الطيبة على غير موعد، فشرب من مياه ينابيعها، وتعلم قدراً من تاريخها، وتعامل مع شعبها ومثقفيها، فأحب أرضها الطيبة وشعبها النبيل وثقافتها المتنوعة، وقد كنت حريصاً، منذ وطأت أقدامي إلى هذه الأرض المباركة، على أن أتعرف على تاريخها وحضارتها وثقافتها، وهو تاريخ طويل منذ حضارة دلمون ومرور الإسكندر الأكبر بهذه المنطقة ثم الفتح الإسلامي والتاريخ الحديث الذي مر عليه كثير من الغزاة من البرتغاليين والفرس والإنجليز وتعاملت معه كثير من الشعوب.
ورغم تقلبات الزمن وصروف الأيام بقى هذا الشعب الأبي صامداً في تمسكه بوطنه وفي حبه وانتمائه له، وفي ولائه لقيادته الرشيدة، منذ القدوم المبارك لآل خليفة لهذه الأرض الطيبة وتأسيس الدولة الحديثة التي أرسى دعائمها المؤسس أحمد الفاتح منذ عام 1783 ميلادية. ولقد تابعت تفاعل البحرين وشعبها مع محيطها الإقليمي والعربي والدولي خلال السنوات الماضية ولمست بوجه خاص الدور الذي قام به المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ عيسى بن سلمان، والشيخ خليفة بن سلمان في العمل الدؤوب من أجل استقلال البحرين وتنميتها وتطورها، وهذا أرسى دعائم الحكم الرشيد لصاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة على أسس راسخة ودعائم ثابتة، ويسعدني أن أرفع لجلالته أسمى آيات التبريكات بهذه المناسبات العزيزة ولرئيس والوزراء الموقر، ولولي عهده الأمين.
لقد كانت كلمة جلالة الملك في العيد الوطني وعيد الجلوس بالغة الدلالة فقد تضمنت عدة مفاهيم ذات مغزى يمكن إيجازها في الآتي:
1. التأكيد على أن هوية البحرين عربية إسلامية مستقلة ذات سيادة، وهي هوية مستمرة منذ القدم وحافظ عليها وحماها في العصر الحديث آل خليفة منذ قيام الدولة الحديثة عام 1783 وسوف يستمرون في المحافظة عليها بإذن الله تعالى.
2. الهوية الاقتصادية للبحرين في سياسة الانفتاح على العالم وتعزيز البناء الرأسمالي والقطاع الخاص وتحسين مستوى المعيشة لكافة المواطنين وتوفير الخدمات العامة في الصحة والتعليم والعمل وفي الرعاية الاجتماعية.
3. تأكيد أهمية دور القوات المسلحة وشقيقاتها (قوة دفاع البحرين - الحرس الوطني - الأمن العام) في الحفاظ على أمن البحرين واستقرارها والذود عن حياضها.
4. الهوية الخليجية للبحرين من خلال تأكيد العمل الخليجي المشترك وخاصة في المجالات الأمنية وقوة درع الجزيرة والقيادة العسكرية الموحدة والشرطة الخليجية والتعاون الأمني بوجه عام، وكذلك التكامل الاقتصادي، بالإضافة للتكامل السياسي والاستعداد للدخول في مرحلة الاتحاد عندما يعقد الاجتماع الخاص بذلك.
5. تكريم الرواد من المواطنين في المجالات المدنية والعسكرية وهذا شمل مختلف طوائف المجتمع بما في ذلك الرجال والنساء بلا تمييز حيث منحوا الأوسمة تكريماً لعطائهم الوطني المستمر.
6. أبرز أهم المراحل في تاريخ البحرين المعاصرة، وأولها تاريخ القدوم المبارك لآل خليفة وتاريخ الاستقلال وتاريخ تولي جلالته للسلطة عام 1999م وهذه علامات مهمة في مسيرة البحرين الحديثة يجب عدم نسيانها من كافة المواطنين.
ولا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن كلمة جلالة الملك تنسب إلى ما يسمى في الأدب العربي بجوامع الكلم، والمختصر المفيد، فهي قصيرة في حجمها، ولكن عباراتها تحمل الكثير من الأفكار والمعاني والطموحات والآمال، وتقدم الانتماءات المرتبطة بالهوية البحرينية الخليجية والعربية والإسلامية، وتؤكد الحرص على الاستقلال والسيادة الوطنية. وهذا كله انعكس في ردود فعل المجتمع والمثقفين والسياسيين ورجال السلك الدبلوماسي الأجنبي في المملكة من واقع ما نشرته الصحف ووسائل الإعلام.
وفي إطار متابعتي لتاريخ البحرين وقيامي بالمساهمة في العدد التاسع من مجلة الدراسات الاستراتيجية التي أصدرها مركز البحرين للدراسات والبحوث في شتاء عام 2007 وتناولت نشر وثائق استقلال البحرين وساعدني في ذلك الصديق السفير كريم الشكر، وكنت آنذاك مديراً لتحرير هذه المجلة الرائدة منذ العدد الثاني وحتى العدد التاسع عشر. كما أصدرت كتابي عن النظام السياسي لمملكة البحرين الإصلاح في أطار الهوية، وصدرت الطبعة الثانية منه عام 2007. وكذلك في إطار متابعتي كدبلوماسي مصري عمل في العديد من المواقع ومنها كدبلوماسي ثم كنائب لرئيس البعثة المصرية في الأمم المتحدة، لمدة خمس سنوات ونصف شاركت في العديد من اللقاءات مع وزراء خارجية مصر وفي مقدمتهم عميد الدبلوماسية المصرية الدكتور أحمد عصمت عبدالمجيد وخليفته الوزير عمرو موسى ونبيل العربي وجميعهم عمل مندوباً دائماً لمصر في الأمم المتحدة ثم أميناً عاماً لجامعة الدول العربية. وفي هذا الإطار كما في العديد من مؤتمرات عدم الانحياز ومنظمة المؤتمر (بعد ذلك) الإسلامي سعدت بحضوري اجتماعات سمو الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة ولمست عن قرب مدى ما يتمتع به من علم ومعرفة وخبرة وحكمة. ولكن عندما تابعت تاريخ استقلال البحرين وجدت بصماته واضحة، وهي بصمات كلمس الحرير هادئة وناعمة وحاسمة، وهذا يذكرنا بالدبلوماسية الناعمة لأستاذين مصريين من أعمدة الدبلوماسية هما الدكتور محمود فوزي والدكتور عصمت عبدالمجيد اللذين تركا بصماتهما على تاريخ الدبلوماسية المصرية وتاريخ مصر الحديث، الأول عندما تولى وزارة الخارجية في الخمسينات وبخاصة أثناء العدوان الثلاثي وترك بصماته في قضايا قناة السويس وإعادة تحرير سيناء بعد العدوان الثلاثي، والثاني عندما تولى وزارة الخارجية في مرحلة العمل من أجل السلام وتحرير أرض مصر من براثن الاحتلال الإسرائيلي، وكانت له مواقفه المشهودة التي سجلها تاريخ الدبلوماسية المصرية.
أما الشيخ محمد بن مبارك فقد لمست عن بعد دوره في استقلال البحرين وفي مسيرتها الدبلوماسية حيث أرسى معالم تلك الدبلوماسية ونشاطها على مدى السنوات الطوال حتى جاء خليفته الشيخ خالد بن أحمد بن محمد آل خليفة بفكره وممارسته وديناميكيته.
وتاريخ الدبلوماسية عادة لا يحظى بالرعاية والاهتمام الكافيين من العديد من وزراء الخارجية العرب، ولكن لحسن الحظ فإن معظم وزراء خارجية مصر كتبوا ونشروا مذكراتهم أمثال محمود رياض وإسماعيل فهمي وعصمت عبدالمجيد ومراد غالب وغيرهم بل مستشار الأمن القومي في مصر حافظ إسماعيل وهو عسكري ودبلوماسي بارز حيث عمل أيضاً نائباً لرئيس الوزراء وسفيراً لمصر في عدة دول.
ومن هنا فإنه في مناسبة ذكرى العيد الوطني للبحرين فإنني أتمنى أن يفكر سمو الشيخ محمد بن مبارك في نشر بعض من تجربته ومساهماته الدبلوماسية والسياسية الثرية وهي مساهمات كبيرة وتحتاج الأجيال الجديدة من السياسيين والدبلوماسيين للتعرف عليها، وهذا سوف يساهم في تعميق الفهم بتاريخ البحرين ومتابعته، وبخاصة في الجانب الدبلوماسي من حيث النشأة والتطور والمواقف حيث الشيخ محمد بن مبارك هو مؤسس هذه الدبلوماسية وواضع لبناتها، وأعتقد أن معهد الدراسات الدبلوماسية التابع لوزارة الخارجية عليه مسؤولية خاصة في هذا الصدد لنقل هذه الخبرة المهمة للأجيال الجديدة.