لم يتجاوز عدد سفن الغزاة التي اجتازت مضيق هرمز عبر التاريخ لاحتلال الخليج العربي إلا عدد الكتاب والمحللين الذين يفتتحون سوق الكلام ويغلقونه ببضاعة على غلافها «أمن الخليج». لكن القليل منها يساعدنا في العبور إلى اللحظة الراهنة. ولموضوع أمن الخليج حفاوةٌ خاصة في نفسي ومن تتبعه وصلنا لقناعة أن الأمن إذا كان هو الشعور بانتفاء التهديد، فإن شعوب الخليج هم أكثر من شعروا بصورة مستمرة بالتهديد، ولا بد أن نشير إلى اختلاف المفاهيم والرؤى حول مضمون أمن الخليج باختلاف الأطراف المؤثرة فيه قديماً وحديثاً، والتي تتفق على أنه ينطلق مما يحقق مصالحها، ولاختلاف هذه المصالح يختلف المفهوم، وهو يختلف باختلاف المرحلة الزمنية، ومن ثم فهو متحرك وبعيد عن الثبات متأثر باللاعبين والزمان مع ثبات الملعب وهو الخليج العربي.
فماذا كان يعني أمن الخليج للقوى التي شكلت نظام أمن الخليج؛ كالبرتغاليين والهولنديين والفرنسيين والبريطانيين والأمريكان والسوفيت أو الروس حالياً بل والإيرانيين والخليجيين أنفسهم؟
قطع الأذان وجدع الأنوف في عمان كان المشهد الافتتاحي لدخول البرتغاليين إلى الخليج 1507م، لقد كان مفهوم أمن الخليج لديهم أن وصولهم جولة جديدة من الحروب الصليبية. كما أرادوا إقامة امبراطورية مسيحية ساحلية لكن قلة عددهم دفعهم لتبني استراتيجية أمن السواحل فقط دون التوغل داخل جزيرة العرب، فبنوا القلاع الساحلية في هرمز وعمان والأحساء والبحرين. ثم سيطروا على طرق التجارة البحرية الرئيسة والفرعية، فأصبحت كل منافذها في أيديهم. لكنهم وجدوا أن العنف المنظم له مردود أكبر من التجارة، فأصبحوا جباة ضرائب وجمارك وأتوات.
مفهوم أمن السواحل فقط أصاب البرتغاليين في مقتل، فقد جعل لليعاربة العمانيين عمقاً استراتيجياً برياً مكنهم من إجلاء البرتغاليين من الخليج عام 1652م. كما استطاع مهنا بن ناصر الزعابي بسفن ترفع الأعلام السوداء وعبارة لا إله إلا الله إجلاء الهولنديين من جزيرة خرج والخليج كله في 1766م بعد 144 عاماً من دخولهم.
كان أمن الخليج بالنسبة لهم استغلالاً اقتصادياً واستيطانياً جشعاً، كما فعلوا في أفريقيا، حيث جلبوا أسرهم للاستيطان في خرج، ولم ينافسوا العرب على التجارة فحسب بل جلبوا الزنوج من مستعمراتهم للغوص على اللؤلؤ، رافقها محاولة للحد من النشاط التجاري البريطاني الجديد.
قلة عدد سكان البرتغال وهولندا كانا وراء انهيار إمبراطورياتهم الشرقية. لكن فرنسا لم تعانِ من قلة عدد السكان ومع ذلك لم تحقق النجاح هنا كالقوى الأخرى. وقد تركز بيع السلاح الفرنسي في عمان منذ 1792م، كما باعت حق رفع أعلامها على السفن العربية لتجاوز التفتيش. وتميز التواجد الفرنسي في الخليج بعدم الجدية حتى بعد احتلال نابليون لمصر وتواصله مع سلطان مسقط. وقد حدد مفهوم أمن الخليج لديهم نظرتهم لتواجدهم كجزء من الصراع الفرنسي البريطاني وليس التواصل الاقتصادي مع أهل المنطقة.
ثم انحسر تواجدهم في الخليج بعد خسارتهم معركة الإسكندرية 1799م لصالح بريطانيا التي احتلت أيضاً قيادتهم البحرية في جزر موريشيوس عام 1818م. لقد نظر نائب الملك في الهند اللورد كورزون للخليج على أنه لوح شطرنج على اللاعب فيه أن يجابه كل حركة جديدة من خصومه بحركة مماثلة، ولم تكن هذه الحركات إلا العنف بأشكاله المتعددة، حيث لم يكن تغلب الغرب البرتغالي والهولندي على أهل الخليج بالأفكار والقيم، ولا بنشر السلم والأمن، ولكن بسبب تفوقهم في تطبيق العنف المنظم، وتفوق القوة النارية الغربية، التي أدت إلى خضوع المنطقة لهم وحدهم وإبعاد الآخرين.
وفي أوج مجدها لم يكن هناك ميناء مفتوح على المحيط الهندي إلا وكان في يد بريطانيا، ولا يصب في ذلك المحيط خليج إلا وهي المتحكمة في ذلك المصب، واستمرار هذه الحالة لأطول مدة ممكنة، كان ذلك جوهر أمن الخليج في المفهوم البريطاني. وإن كان التطبيق متغيراً من فترة زمنية إلى أخرى لكنه لم يخرج كما تتفق معظم الآراء عن كونه أمن ممر مائي لتجارتها إلى الهند في أغلب الفترات، وإن كنا نرى أن الخليج كان غاية بريطانية في حد ذاته في فترات كثيرة وليس مجرد وسيلة للوصول إلى الهند، وقد عملت بريطانيا على إبعاد الدول الأخرى، ثم عالجت التهديدات الداخلية المتمثلة في الصراعات القبلية والكيانات السياسية، التي لم تهتم بها إلا بعد وصول هذه الصراعات إلى البحر، حيث حطمت القواسم بحجة القرصنة، وتجارة عمان بحجة محاربة تجارة الرقيق والسلاح، ثم لوقف اتصالات عمان الجريئة مع فرنسا، وحتى مع الولايات المتحدة.
في الجزء الثاني من مقالنا هذا -إن شاء الله- سنتتبع مفهوم أمن الخليج لدى الأمريكان والسوفيت -الروس حالياً- بل والإيرانيين والخليجيين أيضاً. فبتتبع الأصول وصل فرانسيس فوكوياما في مقاله الشهير «نهاية التاريخ» إلى أن التاريخ لن يأتي بجديد حيال أشكال الصراع الإنساني المتكرر، وأن الديمقراطية المعاصرة واقتصاد السوق الحر هي البديل الحضاري للأنظمة الأخرى، وبتتبعنا لأصل مفهوم أمن الخليج قد نصل إلى نظرية تقينا تبعات الصراع التاريخي على الخليج العربي.
{{ article.visit_count }}
فماذا كان يعني أمن الخليج للقوى التي شكلت نظام أمن الخليج؛ كالبرتغاليين والهولنديين والفرنسيين والبريطانيين والأمريكان والسوفيت أو الروس حالياً بل والإيرانيين والخليجيين أنفسهم؟
قطع الأذان وجدع الأنوف في عمان كان المشهد الافتتاحي لدخول البرتغاليين إلى الخليج 1507م، لقد كان مفهوم أمن الخليج لديهم أن وصولهم جولة جديدة من الحروب الصليبية. كما أرادوا إقامة امبراطورية مسيحية ساحلية لكن قلة عددهم دفعهم لتبني استراتيجية أمن السواحل فقط دون التوغل داخل جزيرة العرب، فبنوا القلاع الساحلية في هرمز وعمان والأحساء والبحرين. ثم سيطروا على طرق التجارة البحرية الرئيسة والفرعية، فأصبحت كل منافذها في أيديهم. لكنهم وجدوا أن العنف المنظم له مردود أكبر من التجارة، فأصبحوا جباة ضرائب وجمارك وأتوات.
مفهوم أمن السواحل فقط أصاب البرتغاليين في مقتل، فقد جعل لليعاربة العمانيين عمقاً استراتيجياً برياً مكنهم من إجلاء البرتغاليين من الخليج عام 1652م. كما استطاع مهنا بن ناصر الزعابي بسفن ترفع الأعلام السوداء وعبارة لا إله إلا الله إجلاء الهولنديين من جزيرة خرج والخليج كله في 1766م بعد 144 عاماً من دخولهم.
كان أمن الخليج بالنسبة لهم استغلالاً اقتصادياً واستيطانياً جشعاً، كما فعلوا في أفريقيا، حيث جلبوا أسرهم للاستيطان في خرج، ولم ينافسوا العرب على التجارة فحسب بل جلبوا الزنوج من مستعمراتهم للغوص على اللؤلؤ، رافقها محاولة للحد من النشاط التجاري البريطاني الجديد.
قلة عدد سكان البرتغال وهولندا كانا وراء انهيار إمبراطورياتهم الشرقية. لكن فرنسا لم تعانِ من قلة عدد السكان ومع ذلك لم تحقق النجاح هنا كالقوى الأخرى. وقد تركز بيع السلاح الفرنسي في عمان منذ 1792م، كما باعت حق رفع أعلامها على السفن العربية لتجاوز التفتيش. وتميز التواجد الفرنسي في الخليج بعدم الجدية حتى بعد احتلال نابليون لمصر وتواصله مع سلطان مسقط. وقد حدد مفهوم أمن الخليج لديهم نظرتهم لتواجدهم كجزء من الصراع الفرنسي البريطاني وليس التواصل الاقتصادي مع أهل المنطقة.
ثم انحسر تواجدهم في الخليج بعد خسارتهم معركة الإسكندرية 1799م لصالح بريطانيا التي احتلت أيضاً قيادتهم البحرية في جزر موريشيوس عام 1818م. لقد نظر نائب الملك في الهند اللورد كورزون للخليج على أنه لوح شطرنج على اللاعب فيه أن يجابه كل حركة جديدة من خصومه بحركة مماثلة، ولم تكن هذه الحركات إلا العنف بأشكاله المتعددة، حيث لم يكن تغلب الغرب البرتغالي والهولندي على أهل الخليج بالأفكار والقيم، ولا بنشر السلم والأمن، ولكن بسبب تفوقهم في تطبيق العنف المنظم، وتفوق القوة النارية الغربية، التي أدت إلى خضوع المنطقة لهم وحدهم وإبعاد الآخرين.
وفي أوج مجدها لم يكن هناك ميناء مفتوح على المحيط الهندي إلا وكان في يد بريطانيا، ولا يصب في ذلك المحيط خليج إلا وهي المتحكمة في ذلك المصب، واستمرار هذه الحالة لأطول مدة ممكنة، كان ذلك جوهر أمن الخليج في المفهوم البريطاني. وإن كان التطبيق متغيراً من فترة زمنية إلى أخرى لكنه لم يخرج كما تتفق معظم الآراء عن كونه أمن ممر مائي لتجارتها إلى الهند في أغلب الفترات، وإن كنا نرى أن الخليج كان غاية بريطانية في حد ذاته في فترات كثيرة وليس مجرد وسيلة للوصول إلى الهند، وقد عملت بريطانيا على إبعاد الدول الأخرى، ثم عالجت التهديدات الداخلية المتمثلة في الصراعات القبلية والكيانات السياسية، التي لم تهتم بها إلا بعد وصول هذه الصراعات إلى البحر، حيث حطمت القواسم بحجة القرصنة، وتجارة عمان بحجة محاربة تجارة الرقيق والسلاح، ثم لوقف اتصالات عمان الجريئة مع فرنسا، وحتى مع الولايات المتحدة.
في الجزء الثاني من مقالنا هذا -إن شاء الله- سنتتبع مفهوم أمن الخليج لدى الأمريكان والسوفيت -الروس حالياً- بل والإيرانيين والخليجيين أيضاً. فبتتبع الأصول وصل فرانسيس فوكوياما في مقاله الشهير «نهاية التاريخ» إلى أن التاريخ لن يأتي بجديد حيال أشكال الصراع الإنساني المتكرر، وأن الديمقراطية المعاصرة واقتصاد السوق الحر هي البديل الحضاري للأنظمة الأخرى، وبتتبعنا لأصل مفهوم أمن الخليج قد نصل إلى نظرية تقينا تبعات الصراع التاريخي على الخليج العربي.