عرفت بلادنا حرسها الله منذ القدم بتآلف نسيجها الوطني وتعايشهم بنحو فريد ولافت، وأسهم حكام البحرين وعلماؤها ووجهاؤها في ترسيخ تلك الثقافة السامية ورعايتها وصونها، إيماناً منهم بأن في ذلك استقرار البلاد وتقدمها بما يتواءم مع المقاصد الشرعية والأخلاقية والإنسانية.
ولكوني عشت قريباً من والدي سمو الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة حفظه الله وأطال في عمره، صرت على مقربة من دائرة القرار في كثير من الشؤون الدينية والاجتماعية، وقد وجدت مدى العناية التي توليها قيادة البلاد في هذا الشأن في عهد المغفور له صاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة أمير البلاد الراحل طيب الله ثراه، فقد كان سموه يحرص كثيراً على إرساء التعايش في المجتمع، وكان يحترم مقدسات جميع أبناء البحرين بمختلف دياناتهم ومذاهبهم، وكان يعضده أخوه صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء الموقر حفظه الله ورعاه. ورأيت هذه العناية والاهتمام يزيدان ويتناميان مع مرور الزمن، ومع اتقاد الفتن الأهلية في كثير من الدول العربية والإسلامية، فجاء العهد الزاهر لحضرة صاحب الجلالة الملك المفدى حفظه الله ورعاه، فاعتنى جلالته بإشاعة تلك الثقافة وتعزيزها.
وقد كنت إلى جوار والدي سمو الشيخ عبدالله بن خالد وهو على رأس وزارة العدل والشؤون الإسلامية، وعلى رأس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وهما الجهتان الرسميتان اللتان تتبع لهما غالبية المشروعات الإسلامية في البلاد، ورأيت كيف أنَّ سموه يحترم جميع المذاهب، ويحترم علماءها ومقدساتها، فكان ومازال سموه دائم التواصل مع العلماء لتبادل وجهات النظر، ناظراً سموه بعين الحكمة والتفهم، مستعيناً سموه بخبرته الواسعة وسعة صدره.
نعم، هذا هو واقعنا الإسلامي من الجهة الرسمية، وقد تصدَّره أفاضل كرماء أحاطوه بالعناية والرعاية أمثال سمو الشيخ عبدالله بن خالد وأبنائه الأفاضل، ومعالي الشيخ عبدالرحمن بن محمد بن راشد آل خليفة مستشار جلالة الملك لشؤون السلطة القضائية، وكيل وزارة العدل والشؤون الإسلامية سابقاً، وهو الرجل الذي يعدُّ مجلسه الأسبوعي في الجفير مقصداً لأبناء البحرين من مختلف الطوائف والمذاهب والأديان، ولمختلف الشرائح والطبقات الاجتماعية.
وشهادةً لله وللتاريخ؛ أقولها وأنا على وشك التقاعد بعد أكثر من 45 سنة من العمل مع سمو الشيخ عبدالله بن خالد، أقولها لا رجاءً مثوبةٍ من أحد، ولا تملقاً لأحد، فما بقي من العمر أقل مما مضى، ولست في حاجة ولله الحمد لتملق أحد؛ أقول إنني تعاملت مع كثيرين من العائلة المالكة الكريمة منذ كنت طالباً في المدرسة، وما رأيت منهم إلا الخير والروح الطيبة.
أما اليوم، وبعد أن تحولت كثير من الاهتمامات إلى السياسة ونزواتها، أُقحمت هذه السياسة في كل مجالات الثقافة والهوية والمجتمع، وهو أمر ينبغي على العقلاء من الطائفتين الكريمتين أن يتصدوا له، فمن غير المعقول أن يسمح العقلاء والفضلاء والحكماء بأن يتم خلط الأوراق بصورة تهدد المجتمع، وتحط من قيمة منجزاته ومظاهره.
وما رأيناه من إقحام الشعارات السياسية والتوجهات السياسية في بعض مواكب العزاء أو على بعض المنابر الدينية أمر غير صحيح، ويجب أن ينبري العلماء وقيمو المآتم والحسينيات للتصدي له وتنقية الموكب والمنبر من كل شعار دخيل عليه، فالسياسة لها مجالاتها وقنواتها، ومن غير المسموح أن تستغلَّ مقدساتنا الدينية في السياسة المتلونة والمتقلبة، مما يعني إفراغ المقدس من محتواه الأصيل.
كما إنه من غير المقبول إطلاقاً المساس بكل ما يرمز للوطن؛ قيادته، علمه، ومنجزاته الحضارية، فذلك سلوك مشين لا نقبل به، وليس في ثقافة أهل البحرين الأصيلة المساس بأحد عموماً، فما بالك بالمساس برموز البلد؟!
لقد ورث الشعب البحريني المسلم المسالم ثقافة التعايش والتعاون، وورث مواكب العزاء التي تجوب القرى والأحياء بنمطها الأصيل الرثائي، كما توارث حكام البلاد ثقافة دعمها، فصارت تلك المواكب عاملاً في تعزيز التعايش المشترك، ومتى ما تحولت إلى أدوات بيد الأحزاب السياسية فإنها ستكون معول هدم، وعامل تأزيم.
وأخيراً أقول؛ المقدسات الدينية والمنجزات الوطنية والثوابت المجتمعية أمانة في أعناقنا جميعاً، وينبغي أن نصونها مجتمعين، وعلينا أنْ نقدم المصلحة العليا للبلد، والمصالح المشتركة لنا جميعاً على أي مصالح حزبية أو فئوية؛ لئلا نخسر الكثير من المكتسبات والموروثات التي أرساها الآباء والأجداد، كما ينبغي أن نصون أمننا واقتصادنا حمايةً لمستقبل الجميع. حرس الله البحرين الحبيبة، وقيادتها، وشعبها من كل مكروه وسوء، وجمع قلوبهم على الخير والمعروف.