سوف تكون معذوراً إذا لم تكن مهتماً بمتابعة مسيرة المفاوضات التي يجريها وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بالواسطة بين محمود عباس وبنيامين نتانياهو. تجربة السوابق بالنسبة إلى الوساطات الأمريكية في هذه الأزمة لا تبشر بالخير، فلماذا يُنتظر من كيري أن ينجح في ما فشل أسلافه عن تحقيقه، وخصوصاً منذ التوصل إلى اتفاق أوسلو، وعجز إدارات جورج بوش الأب وبيل كلينتون ثم جورج بوش الابن عن التوصل إلى التسوية الموعودة؟
غير أن كيري يتحدث الآن بلغة لم نسمعها من قبل على لسان أسلافه، ربما باستثناء جيمس بيكر، الذي هدد إسحاق شامير علناً بوقف أي اتصال مع الجانب الإسرائيلي، وقال له على الهواء: هذا رقم وزارة الخارجية.. تستطيعون الاتصال بي عندما تكونون مستعدين لتقديم ما يلزم لتحقيق السلام.
الآن يسمع الإسرائيليون من كيري كلاماً يعتبرونه تهديداً من جانب واشنطن لم يألفوه من قبل. في منتدى الأمن والدفاع الذي عقد في ميونيخ، قال كيري: إذا فشلت المفاوضات مع الفلسطينيين سيتبين أن ازدهار وأمن إسرائيل ليسا سوى وهم مؤقت.. حملة نزع الشرعية عن إسرائيل والمقاطعة الدولية ستزداد وستواجه إسرائيل أخطاراً أكبر.
انضم وزراء في حكومة نتانياهو إلى زميلهم وزير الدفاع موشي يعالون الذي سبق أن هاجم كيري ودعاه إلى التخلي عن مهمة الوساطة «لأنك لا يمكن أن تعلمنا شيئاً عن النزاع مع الفلسطينيين». وزير الاقتصاد نفتالي بينيت قال إنه كان يتوقع من أكبر صديقة لإسرائيل في العالم «أن تقف إلى جانب إسرائيل في مواجهة موجة المقاطعة لا أن تكون بوقاً لها». ووزير الشؤون الاستراتيجية يوفال شتاينتس اعتبر تصريحات كيري «سيئة ولا تطاق» وقال «لن يكون ممكناً أن يفرضوا تسوية على إسرائيل بتوجيه المسدس إلي رأسها».
أما نتانياهو فقد افتتح جلسة الحكومة الإسرائيلية الأحد بالقول: أي ضغط على إسرائيل لن يثمر، ولن يدفعني نحو المساومة على المصالح الحيوية لإسرائيل وفي المقدمة أمنها.
وصف المؤرخ اليهودي آفي شلايم، صاحب الكتاب المرجع «الجدار الحديدي: إسرائيل والعالم العربي» في مقال نشره في صحيفة «نيويورك تايمز» الصَلَف الإسرائيلي في وجه الولايات المتحدة بأنه بلا أخلاق. عنوان المقال كان: «على إسرائيل أن تتعلم شيئاً عن أصول التصرف». وذكر شلايم أن مجموع ما أنفقته الولايات المتحدة على إسرائيل منذ عام 1949 بلغ 118 بليون دولار، كما استخدمت الولايات المتحدة الفيتو في مجلس الأمن 42 مرة لحماية إسرائيل منذ توقيع معاهدة كمب ديفيد سنة 1978. ولخص ما يريد أن يقوله بجملة بسيطة: أمريكا تعطي إسرائيل المال والسلاح وتقدم لها المشورة. لكن إسرائيل تأخذ المال والسلاح وترفض النصيحة بطريقة غير أخلاقية.
كلنا نعرف السبب الحقيقي لهذا الاستخفاف الإسرائيلي بموقف واشنطن وبرأيها. وهو عدم رغبة واشنطن في ممارسة أي ضغط على الإسرائيليين، لإرغامهم على تسوية مقبولة مع الفلسطينيين. واشنطن قادرة على ذلك بلا شك، لكن المسؤولين فيها لا يريدون، لأن الحسابات السياسية الداخلية تتحكم بمواقفهم أكثر من الحسابات الأخلاقية وحسابات مصالحهم في المنطقة.
لو كانت لدى الإسرائيليين رغبة حقيقية في السلام، لكانت هذه أفضل فرصة لهم لتحقيق ذلك. العرب منشغولون بأزماتهم الداخلية عن صراعهم مع إسرائيل. والفلسطينيون في حال استثنائي من الضعف والانقسام. والعرض الموجود على الطاولة من قبل الرئيس الفلسطيني محمود عباس، كما شرحه في حديثه إلى صحيفة «نيويورك تايمز» في عدد أمس، هو عرض «تاريخي» بكل المقاييس: وجود دائم لقوات من حلف الأطلسي على حدود الدولة الفلسطينية العتيدة، سواء مع الأردن في الشرق أو مع إسرائيل في الغرب، وفي مدينة القدس. انسحاب إسرائيلي مرحلي يمتد إلى خمس سنوات (بدل ثلاث) من الضفة الغربية. دولة فلسطينية منزوعة السلاح. وروى محمود عباس قصة لقاء جمعه قبل بضع سنوات مع نتانياهو بحضور وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون. سأل عباس رئيس الوزراء الإسرائيلي: إذا لم تثقوا بحلفائكم لحماية حدودكم، فبمن تثقون؟ أجاب نتانياهو: أثق بجيشي فقط.
لو كان نتانياهو مقتنعاً بالسلام لأصبح كل شيء سهلاً، كما يقول محمود عباس.. وبانتظار أن يقتنع نتانياهو، سيظل جون كيري يحاول. لقد أصبح النزاع الفلسطيني الإسرائيلي وظيفة ضرورية لوزراء الخارجية الأمريكيين، مع أنهم يعرفون أنه لا توجد أي فرصة للنجاح.
عن جريدة «الحياة»