قبيل انتصاف ليلة في أوآخر فبراير 1991م وصلنا لمعسكر فرقة المارينز الثانية جنوب غرب الكويت المحررة، تجاوز الإجهاد مرحلة التعب البدني وألقاني على حافة الإعياء الذهني، لا مكان لنا في خيام المستشفى الميداني القريب، لكن العهدة العسكرية معي احتوت سرير له قوائم ينشر فوقها غطاء كالخيمة، كنا بقرب طريق للشاحنات. لفت نظري كثرة عصى الإنارة الفسفورية «fluorescent Lightsticks» التي طولهــا شبر مبعثرة على الأرض الطينية، التقطت بعضها وأحطت سريري بدائرتين ذات شعاع أصفر أتقلب مرتجفاً برداً على أصوت لا تحصى؛ أتحسس بأصابعي وعورة جانب الترانسستور الصغير على أذني وهو يلتقط صوت عبدالكريم عبدالقادر من إذاعة بعيدة تقاوم تشويش الحرب الإلكترونية المنتشرة في سماء الجبهة، وتختلط أصوات المطر والرعد وأنين الجرحى مع راجمات الصواريخ في الشمال، صوت طائرات هيلكوبتر تقترب ثم تبتعد، ربما كانت تحلق منخفضة لتلافي الكشف الراداري! كانت أوضح أنغام سمفونية الحرب في تلك الليلة الباردة.
تستخدم الهيلكوبتر لتحقيق عنصر المفاجأة ولأداء المهمات التي لا تستطيع بقية قدرات الجيش تحقيقها، ومن ذلك نقل الجنرال نورمان شوارسكوف والجنرال خالد بن سلطان لاجتماع خيمة صفوان 3 مارس 1991م، أي بعد أسبوع من تلك الليلة. كان الجنرال مزهواً بنصره في عاصفة الصحراء حتى وصل الأمر به أن طلب أن يأتي صدام بنفسه ويسلم سيفه في خيمة الاجتماع رمزاً للاستسلام كما فعل إمبراطور اليابان أمام الجنرال مكارثر على السفينة ميسوري 1945م. لكن صدام أرسل وزير دفاعه محدود القدرات الجنرال سلطان هاشم الذي حصل على منصبه لأن صدام وضع الخط الأحمر على كتفه حين تلقى دورة مختصرة للقيادة والأركان على يدي هاشم.
لم يفارق الغرور شوارزكوف، ووسط ذهول الضباط البعثيين أعلن أن لا مشكلة مطلقاً في السماح لهم باستخدام الهليكوبتر بعد وقف إطلاق النار، كانت هذه نقطة مهمة جداً، فأراد سلطان هاشم وفريقه التأكد مما سمعوا من أن باستطاعة الهليكوبتر التحليق فوق العراق كما طلبوا، فكرر الجنرال الأمريكي موافقته. وبعد أيام أخمدت رشاشات الحوامات لوحدها انتفاضة الشعب العراقي في الجنوب والشمال، لقد برر شوارسكوف أفعاله بعد سحق الانتفاضة الشعبانية بوحشية إلى أن موافقته كانت لدواع إنسانية بعد دمار الطرق، ثم عاد وقال إن العراقيين نكثوا بوعدهم في استخدامها لأغراض سلمية وأنهم خدعوه «I was suckered».
لقد وافق شوارسكوف على السماح لصدام باستخدام الهيلكوبتر حتى يصد «الغزاة القادمين من إيران» كما قيل حينها، ولأن مصلحة أمريكا متغيرة، فقد تغير العدو وبقى السيناريو نفسه. فقد وافقت إدارة أوباما مؤخراً على بيع بغداد وبصفة عاجلة 24 طائرة الهيلكوبتر آباشي لصد «الغزاة القادمين من سوريا» هذه المرة، ولا شك أننا اليوم أمام وضعان منفصلان في الشكل متفقان في المضمون؛ فكما سحق صدام الانتفاضة الشعبانية ينوي المالكي استخدام الهيلكوبتر لسحق انتفاضة الأنبار والمناطق السنية الثائرة، أما وقود رفضنا لاستمرار واشنطن بتكرار عمل شوارسكوف قبل عشرين عاماً فمرده التالي:
- لن يتردد المالكي في استخدام الحوامات ضد مناوئيه السياسيين، ولو كانت معه لاستخدمها ضد اعتصامات الخيام السلمية .ألم يكن هو من خاطب ضباطه قبل عامين طالبا منهم سعة الصدر مع الأكراد حتى تصل طائرات إف F16!
- ستتجاوز صفقة الحوامات، بل وصفقة إف F16، بعدها العسكري، حيث تعني الدعم السياسي الأمريكي للمالكي في الانتخابــات القادمة، مما يعني استمرار حالة «الأزمة الممتدة» لسنوات أربع قادمة، وإطلاق يده في العراق تحت ذريعة فرض الأمن، كما إن استمرار وجود المالكي يعني ذريعة استمرار وجود مناوئيه من «القاعدة» و«داعش» ومن على شاكلتهم.
- إن تزويد بغداد بالحوامات لا يعني رفع جاهزية الجيش العراقي المقسم طائفياً بقدر ما يعني رفع قدرات ميليشيات المالكي، وهو أمر لن يكون مستساغاً في جوار العراق الإقليمي، كما إن في ذلك انتحار إقليمي لواشنطن. ناهيك عن عدم جاهزية الملاح العراقي للحصول على جدوى هذه الحوامات في وقت قريب، فيما يزدان سجل مناوئي بغداد منذ الزرقاوي بنقاط تفوق على الآباشي في سماء العراق، فهل نحن بحاجة لإضافة إسقاط «منقاش» إحداها ببندقية «برنو» من بقايا الحرب العالمية الأولى؟
في تلك الليلة الباردة تجاوزت سمفونية الحرب سريعاً المرحلة المرحة ودخلت في الحركة الثانية ذات الأنغام الصاخبة العنيفة، حيث هبت عاصفة هوجاء وجدت نفسي جراءها ملقى على الأرض، وبعد رشقي بصليات من الشتم أبعدني عسكريان غاضبان وعادا بنقالة الجرحى لهيلكوبتر الإخلاء الطبي التي كانت تحاول الهبوط في الدائرة التي يتوسطها سريري بعد أن غيرت مكان هبوطها «Helipad» المرسوم بأعواد الإنارة، والتي جعلتها حول سريري خوفاً من أخطار الأرض، فنزل الخطر من السماء.
وبحثاً عن خاتمة تفرض نفسها مقولة عمر بن الخطاب «لو أن بغلة في العراق تعثرت لخفت أن أسأل عنها لم لم تسو لها الطريق يا عمر»، لكن ذلك عمر، فهل كان المالكي مرسلاً هيلكوبتر الإخلاء الطبي للأنبار المدمرة طرقها بدل أن يرسل الآباشي للفتك بشعبه!
تستخدم الهيلكوبتر لتحقيق عنصر المفاجأة ولأداء المهمات التي لا تستطيع بقية قدرات الجيش تحقيقها، ومن ذلك نقل الجنرال نورمان شوارسكوف والجنرال خالد بن سلطان لاجتماع خيمة صفوان 3 مارس 1991م، أي بعد أسبوع من تلك الليلة. كان الجنرال مزهواً بنصره في عاصفة الصحراء حتى وصل الأمر به أن طلب أن يأتي صدام بنفسه ويسلم سيفه في خيمة الاجتماع رمزاً للاستسلام كما فعل إمبراطور اليابان أمام الجنرال مكارثر على السفينة ميسوري 1945م. لكن صدام أرسل وزير دفاعه محدود القدرات الجنرال سلطان هاشم الذي حصل على منصبه لأن صدام وضع الخط الأحمر على كتفه حين تلقى دورة مختصرة للقيادة والأركان على يدي هاشم.
لم يفارق الغرور شوارزكوف، ووسط ذهول الضباط البعثيين أعلن أن لا مشكلة مطلقاً في السماح لهم باستخدام الهليكوبتر بعد وقف إطلاق النار، كانت هذه نقطة مهمة جداً، فأراد سلطان هاشم وفريقه التأكد مما سمعوا من أن باستطاعة الهليكوبتر التحليق فوق العراق كما طلبوا، فكرر الجنرال الأمريكي موافقته. وبعد أيام أخمدت رشاشات الحوامات لوحدها انتفاضة الشعب العراقي في الجنوب والشمال، لقد برر شوارسكوف أفعاله بعد سحق الانتفاضة الشعبانية بوحشية إلى أن موافقته كانت لدواع إنسانية بعد دمار الطرق، ثم عاد وقال إن العراقيين نكثوا بوعدهم في استخدامها لأغراض سلمية وأنهم خدعوه «I was suckered».
لقد وافق شوارسكوف على السماح لصدام باستخدام الهيلكوبتر حتى يصد «الغزاة القادمين من إيران» كما قيل حينها، ولأن مصلحة أمريكا متغيرة، فقد تغير العدو وبقى السيناريو نفسه. فقد وافقت إدارة أوباما مؤخراً على بيع بغداد وبصفة عاجلة 24 طائرة الهيلكوبتر آباشي لصد «الغزاة القادمين من سوريا» هذه المرة، ولا شك أننا اليوم أمام وضعان منفصلان في الشكل متفقان في المضمون؛ فكما سحق صدام الانتفاضة الشعبانية ينوي المالكي استخدام الهيلكوبتر لسحق انتفاضة الأنبار والمناطق السنية الثائرة، أما وقود رفضنا لاستمرار واشنطن بتكرار عمل شوارسكوف قبل عشرين عاماً فمرده التالي:
- لن يتردد المالكي في استخدام الحوامات ضد مناوئيه السياسيين، ولو كانت معه لاستخدمها ضد اعتصامات الخيام السلمية .ألم يكن هو من خاطب ضباطه قبل عامين طالبا منهم سعة الصدر مع الأكراد حتى تصل طائرات إف F16!
- ستتجاوز صفقة الحوامات، بل وصفقة إف F16، بعدها العسكري، حيث تعني الدعم السياسي الأمريكي للمالكي في الانتخابــات القادمة، مما يعني استمرار حالة «الأزمة الممتدة» لسنوات أربع قادمة، وإطلاق يده في العراق تحت ذريعة فرض الأمن، كما إن استمرار وجود المالكي يعني ذريعة استمرار وجود مناوئيه من «القاعدة» و«داعش» ومن على شاكلتهم.
- إن تزويد بغداد بالحوامات لا يعني رفع جاهزية الجيش العراقي المقسم طائفياً بقدر ما يعني رفع قدرات ميليشيات المالكي، وهو أمر لن يكون مستساغاً في جوار العراق الإقليمي، كما إن في ذلك انتحار إقليمي لواشنطن. ناهيك عن عدم جاهزية الملاح العراقي للحصول على جدوى هذه الحوامات في وقت قريب، فيما يزدان سجل مناوئي بغداد منذ الزرقاوي بنقاط تفوق على الآباشي في سماء العراق، فهل نحن بحاجة لإضافة إسقاط «منقاش» إحداها ببندقية «برنو» من بقايا الحرب العالمية الأولى؟
في تلك الليلة الباردة تجاوزت سمفونية الحرب سريعاً المرحلة المرحة ودخلت في الحركة الثانية ذات الأنغام الصاخبة العنيفة، حيث هبت عاصفة هوجاء وجدت نفسي جراءها ملقى على الأرض، وبعد رشقي بصليات من الشتم أبعدني عسكريان غاضبان وعادا بنقالة الجرحى لهيلكوبتر الإخلاء الطبي التي كانت تحاول الهبوط في الدائرة التي يتوسطها سريري بعد أن غيرت مكان هبوطها «Helipad» المرسوم بأعواد الإنارة، والتي جعلتها حول سريري خوفاً من أخطار الأرض، فنزل الخطر من السماء.
وبحثاً عن خاتمة تفرض نفسها مقولة عمر بن الخطاب «لو أن بغلة في العراق تعثرت لخفت أن أسأل عنها لم لم تسو لها الطريق يا عمر»، لكن ذلك عمر، فهل كان المالكي مرسلاً هيلكوبتر الإخلاء الطبي للأنبار المدمرة طرقها بدل أن يرسل الآباشي للفتك بشعبه!