ما يجري في مصر، عملية ممنهجة لنشر الفوضى، والحيلولة دون استقرار الدولة، والأمان للناس، من أجل هدم الدولة، ليبنوا على أشلائها دويلات بغير مواصفات الدول، كما تتوهم عادة التنظيمات المنشقة عن أوطانها.
والفوضى كنظرية سياسية، هدفها، أصلاً، هدم الدولة، سواء كان منشؤها فكراً سياسياً أمريكياً، أو سلوكاً مكتسباً من ممارسات تنظيمات إرهابية، كالقاعدة.. والفوضى سواء كانت نظرية أو سلوكاً، تغذيها عقول أكبر إدراكاً بنتائج ما تفعله، ممن يمارسونه محلياً - فهذه العقول لديها مران، وخبرة سنوات طويلة في هذا المجال - وأبرز من قاموا بالتنظير لهذه النظرية، هو مايكل لادين الذي صاغها عام 2002 بتكليف من معهد «أمريكان إنتربرايز»، الذي كان يعرف بقلعة المحافظين الجدد، والذي وضع لهذا المعهد، ما أسموه خطة السنوات العشر لتغيير المنطقة العربية كلها من داخلها.
وفي عام 2003 شرح مفكر آخر من حركة «المحافظين الجدد»، هو تشارلز كراوتهامر، أهداف هذه النظرية في العالم العربي، فقال: «إن الهدف هو تغيير هذه المنطقة كلها من داخلها، سياسياً واجتماعياً».. وفي السنة نفسها نشرت صحف أمريكية تسريبات لقيادات عسكرية من داخل البنتاغون، تقول إن السياسة الأمريكية تعمل على إعادة رسم الخريطة الإقليمية للمنطقة، لتكون «إسرائيل» في مركزها.. وليست مصر».
وكعادة السياسة الأمريكية حين يكون مطلوباً أن يدار العمل من داخل الدولة، فهي تلجأ إلى وكلاء محليين، تستخدمهم، ممن لديهم طموحات تخصهم، ومستعدون في المقابل لخدمة المصالح الأمريكية. ونشوء نظرية الفوضى الهادمة للدولة، أو حسب تسميتهم لها «الفوضى الخلاقة»، ارتبط بمدرسة أساسية للسياسة الخارجية معترف بها في الولايات المتحدة. وحيث توجد مدرستان للسياسة الخارجية، إحداهما تعرف بالمدرسة المثالية، والثانية المدرسة الواقعية. الأولى تعد النبع لنظرية الفوضى في العالم العربي. وينتمي لها المحافظون الجدد، مع تيارات سياسية أخرى. وتؤمن بالسيادة المطلقة لأمريكا، والوصول إليها، حتى لو تطلب الأمر استخدام القوة. أما المدرسة الواقعية، ومن أبرز رموزها بوش الأب، وجيمس بيكر، وبيل كلينتون وغيرهم، فتؤمن بالسيادة النسبية، بمشاركة آخرين، وبطرق الإقناع، والترويج للقيم الأمريكية.
وتقول دراسات أمريكية، إن تفكير المدرسة المثالية كانت له الغلبة، بعد خروج الملايين للتظاهر في ميدان التحرير وغيره من الميادين في عام 2011 تخوفاً من أن ينتهى ذلك، إلى تبني سياسات مصرية جديدة، تؤثر سلبياً في المصالح الاستراتيجية الأمريكية. وأن المصريين لمسوا مؤشرات هذا التوجه، بما أظهرته نتائج استطلاع للرأي في أبريل 2011 من أن 79% من المصريين عبروا عن عدم ارتياح لموقف أمريكا.
ومن الناحية الأخرى، أظهرت استطلاعات لدى أنصار المدرسة الواقعية، تخوفاً من أن استعانة أمريكا بوكلاء تشتبه في تبنيهم أفكاراً إرهابية، والذين أسمتهم مصادر أمريكية بالإسلام المعتدل، إنما يساعد على انتشار تنظيمات إرهابية كالقاعدة.
والفوضى بشكل عام يمكن أن تظهر في بعض البلاد، سلوكاً تلقائياً بعيداً، عن منهجية هذه النظريات، كظاهرة مؤقتة، ثم تخسر موجاتها. وذلك في ظروف انتقال دولة من نظام سياسي استبدادي قمعي، إلى نظام هو النقيض منه. ويشرح بعض علماء النفس هذه الحالة، بأن الشعب يجد نفسه حينئذ، وكأنه قد أطلق سراحه، من سرداب مظلم، مقيدة فيه أرجله بالأغلال، ثم خرج فجأة إلى النور، فغشت عينيه غمامة قاتمة، إلى أن تعتاد العين على الضوء، بينما لهفته على الحركة المحروم منها، تجره إلى محاولة الجري، فيتعثر في البداية، إلى أن تتوازن حركته.
في هذه الظروف تظهر حركات وتيارات سياسية، بعضها يريد أن يثبت لنفسه أنه يملك حرية الحركة، والقول، والتصرف، فيتمادى البعض في الخروج على الضوابط والقوانين، وهو ما ينشر الفوضى. حدث ذلك في الصين، بعد وفاة ماوتسي تونغ، في الفترة الانتقالية التي حكم فيها بعض أنصاره، إلى أن جاء إلى الحكم دينغ شياو بينغ، بمشروعه الذي كان الأساس الذي قامت عليه نهضة الصين الاقتصادية الراهنة.
وحدث أيضاً في الاتحاد السوفيتي، عقب تفككه، وبدء مرحلة الفوضى التي ظهرت فيها المافيا، بما أثارته من رعب للناس، إلى أن جاء بوتين بمشروعه لاستعادة عافية روسيا اقتصادياً، واستعادة مكانتها الدولية.
إن الفوضى كما شهدناها في مصر، كان لها جناحان، أولهما الإخوان تساعدهم منظمات إرهابية متحالفة معهم أبرزها القاعدة، فتحوا لها الأبواب للتوغل في سيناء، وتسريب السلاح لهم من ليبيا وغزة. والجناح الثاني صاحب النظريات واستراتيجيات الفوضى في أمريكا، الذي أعلن عن أهداف نظرياته منذ فترة حكم بوش .
وكانت السلوكيات الفوضوية من جانب الإخوان وأنصارهم، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتجارب سابقة للقاعدة، في أفغانستان، والعراق، وأقنعتها أن الفوضى هي البيئة الأنسب للتواجد والنشاط.. وأن الفوضى هي حاضنة الإرهاب.
* عن «الخليج» الإماراتية