في مقالتين سابقتين «انظر (الحياة) 6 أبريل 2014، كذلك 22 فبراير 2014» ذكرت أن الدولة الإسلامية في مرحلتها الكلاسيكية عرفت الفصل، لكنها مع ذلك لم تكن دولة علمانية. وكنت تناولت باختصار بعضاً من معالم الفصل. أعود إلى الموضوع بتفصيلات أكثر. أول معالم الفصل وأبرزها بين الدين والدولة بعد الخلافة الراشدة تدشين ما بات يعرف في الأدبيات الإسلامية بـ«ولاية المتغلب». بدأ الواقع السياسي لهذه الدولة يتشكل ويفرض نفسه قبل ظهور المصطلح الذي عرفت به لاحقاً.
ومع أن البداية الفعلية لهذه الولاية كانت مع الدولة الأموية، إلا أنها لم تقتصر عليها. وعلى العكس، تبنت كل الدول التي جاءت بعد ذلك النموذج السياسي نفسه، من هنا كانت الدولة الأموية بداية تحول سياسي جاء على أثر انهيار الخلافة الراشدة، ثم الفتنة التي أعقبت ذلك.
من ناحية أخرى، كان ظهور ولاية المتغلب ورسوخها عبر القرون تعبيراً عن استثنائية الخلافة الراشدة التي لم تتمكن من الصمود أكثر من ثلاثة عقود، وإذا كان الفقهاء مجمعين على أن الأخيرة هي النموذج المثالي والوحيد للخلافة «أو الدولة الدينية»، وأن الدولة الأموية وما أعقبها من دول هي في حقيقتها دولة ملك «ولاية متغلب» وليست دولة خلافة، فإن هذا يعني أننا بعد الفتنة بتنا إزاء دولة دنيوية توظف الدين وتستظل به. بعبارة أخرى، ولاية المتغلب دولة عربية إسلامية، متمسكة بالخصائص القبلية للمجتمع العربي، وتنتمي إلى الإسلام، ومن ثم لم تكن دولة دينية.
ولعل من الطبيعي أنه إذا كان الدين في مرحلة الخلافة الراشدة متصلاً بالدولة بأقرب ما يكون الاتصال، ومتداخلاً معها أحياناً، فإن الفصل بينهما سيحل محل هذا الاتصال في الدولة الدنيوية التي جاءت بعد هذه الخلافة. ويبدأ الفصل -كما ذكرت- من طبيعة الدولة ذاتها، وهي طبيعة الغلبة التي فرضت مشروعية الشوكة والغلبة، وأولويتها على غيرها مثل آلية للوصول إلى الحكم. ومن الواضح أن آلية القوة والغلب في لعبة السلطة آلية اجتماعية دنيوية محض، في مضمونها وطريقة عملها، وفي مراميها النهائية. هي ليست آلية دينية أو مستمدة من نص ديني، صحيح أنها ربما تستخدم لهدف ديني أو بغطاء ديني، لكنها بذاتها ليست عاملاً دينياً. وهذا تحديداً مناط التجاور، ثم التمييز والفصل بين الديني والسياسي في التجربة الإسلامية حتى في مرحلتها الكلاسيكية. فأي منهما «الغلبة والدين» لم يفضِ في الحقيقة إلى إلغاء الآخر أو نفيه تماماً من المعادلة. وحتى قول الفقهاء بضرورة القبول بواقع ولاية المتغلب تجنباً للفتنة، وهو قول تحول إلى قاعدة معتمدة وراسخة، هو في الأخير قول يصبو إلى هدف اجتماعي سياسي، أي هدف دنيوي، وليس هدفاً دينياً. تجنب الفتنة واجب ديني، لكن ليس لأن التجنب بحد ذاته هدف ديني، وإنما لأن من أولويات الإسلام نشر السلم وتحقيق الأمن في المجتمع.
ولا تتضح الصفة الدنيوية للقوة والغلب فقط من طبيعة الآلية ذاتها، وإنما من حقيقة ألا القرآن ولا السنّة النبوية تناولا موضوع الدولة بمدلولاتها السياسية والقانونية، أو تداولا السلطة، وكيفية الوصول إليها، ومصدر هذه السلطة. وهناك إجماع بين الفقهاء على أن الشارع اعتبر هذه الأمور السياسية أموراً دنيوية، وترك أمر التقرير في شأنها للناس، كما قال الرسول يوماً: «أنتم أدرى بأمور دنياكم». وانطلاقاً من ذلك، فإن التجويز الشرعي لآلية الغلب هو تجويز اعتمد على التأويل بناء على مبدأ «درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة»، وليس على نص هو ليس موجوداً أصلاً. ومن ثم فهو تجويز لآلية دنيوية على أساس من مصلحة دنيوية أيضاً.
في هذا الإطار السياسي الذي يستند أساساً إلى فصل الديني عن السياسي، أخذت معالم أخرى للفصل تبرز في شكل طبيعي. فالجماعات الدينية، وعمليات تشكل المذاهب، وتدوين الحديث، وتدوين وتقعيد الفقه وأصوله، وتفسير القرآن، كانت تتم خارج الإطار الرسمي للدولة، ومن دون علاقة بها. هناك مؤشرات إلى أنه تم توظيف رواية الحديث لمصلحة هذه الدولة، أو ضداً لمصلحة تلك، وهي مؤشرات تحفل بها المصادر، لكن هذه تتم عادة من منطلقات ولأهداف سياسية، كل ذلك يوحي بأنه في أواخر الدولة الأموية وبداية الدولة العباسية أصبح المجتمع السياسي بقياداته وآلياته ومؤسساته يتميز وينفصل عن المجتمع الديني بعلومه ومحدثيه وفقهائه ومريديه، وذلك في الإطار الجامع للدولة ذاتها. وعانت الدولة في هذا الإطار من الجماعات الدينية المعارضة، مثل الخوارج، وفي الوقت نفسه استفادت من عمل المحدثين والفقهاء في بلورة البنية القانونية للدولة المتمثلة بالشريعة تبعاً لهذا المذهب أو ذاك. والدولة هنا دائماً انتقائية وفقاً لرؤية «أمير المؤمنين» والمحيطين به، لمصلحة الدولة واستقرارها.
لا يمكن القول إن فصل الديني عن السياسي في هذه الحال كان يعبر عن علمانية الدولة الإسلامية في مرحلتها الكلاسيكية. هناك فرق كبير بين الفصل الدستوري أو الفصل المنصوص عليه بمادة دستورية مدونة، كما حصل في الدول الغربية الحديثة عن نوع آخر من الفصل. هذا النوع الآخر هو الفصل الذي يتم بشكل عفوي وطبيعي، يفرضه الواقع الاجتماعي للدولة، وتفرضه مصلحة الدولة في حدود هذا الواقع. وهو فصل غير منصوص عليه مباشرة بمادة دستورية مكتوبة، لأنه لم يكن هناك دستور أصلاً. الفرق بين هذين النوعين يعكس مسار التطور السياسي والدستوري للدولة، ومن ثم فالفصل هنا فصل طبيعي أملته الطبيعة الإنسانية للمجتمع، ولم يكن فصلاً سياسياً بالاستناد إلى نص دستوري أملاه التطور السياسي والدستوري للمجتمع.
من ناحية أخرى، هناك صفتان أساسيتان للعلمانية، الأولــى أنهـــا تعبير عــن الاستقــلال المعــــرفي «الإبستمولوجي» للعقل الإنساني، كما يقول عادل ظاهر، أي قدرته على التحصيل والتحليل المعرفي، وبالتالي على إدارة شؤونه الدنيوية باستقلال عن سلطة الموروث في شكل عام، وسلطة المؤسسة أو النصوص الدينية في شكل خاص. والصفة الثانية أن العلمانية بناء على ذلك تقتضي حيادية الدولة دينياً، وأيديولوجياً عموماً. أي أن تكون الدولة من دون هوية دينية أو مذهبية، ما يسمح بأن تكون علاقتها بمن ينتمي إليها علاقة دولة مدنية مستقلة بمواطنيها، وأن تكون على مسافة واحدة من هؤلاء المواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو المذهبية أو العرقية.. إلى آخره. ولم تكن الدولة الإسلامية تتوافر فيها أي من هاتين الصفتين، لا في مرحلتها الكلاسيكية ولا في ما بعد ذلك. فهي لم تكن مستقلة تماماً عن النص الديني في دورها السياسي، ولا في مقاربتها للشؤون الاجتماعية والقضائية، ولم تكن حيادية من حيث هويتها الدينية والمذهبية.
ما الذي يمكن أن نستنتجه من ذلك؟ إن فصل الديني عن السياسي من حيث المبدأ أمر طبيعي. حصل في القديم لأسباب طبيعية وأدوات معينة متوافقة معها. ويحصل في العصر الحديث بدواعٍ سياسية وآليات دستورية مختلفة، لكن ليس كل فصل للديني عن السياسي تعبيراً عن علمانية ناجزة، وإنما هو -تبعاً لمنطلقاته وحدوده وأهدافه- تعبير عن الحال الاجتماعية والسياسية للحظة التي حدث فها. ربما يقال إن الفصل يشبه العلمانية، وربما يؤسس لها ثم يفضي إليها. وهذا صحيح.
السؤال؛ إذا كانت عملية الفصل في أصلها طبيعية ولا يمكن تفاديها، فهل العلمانية التي ربما تفضي إليها هي أيضاً عملية طبيعية لا يمكن في نهاية المطاف تفاديها؟
* نقلاً عن صحيفة «الحياة»
ومع أن البداية الفعلية لهذه الولاية كانت مع الدولة الأموية، إلا أنها لم تقتصر عليها. وعلى العكس، تبنت كل الدول التي جاءت بعد ذلك النموذج السياسي نفسه، من هنا كانت الدولة الأموية بداية تحول سياسي جاء على أثر انهيار الخلافة الراشدة، ثم الفتنة التي أعقبت ذلك.
من ناحية أخرى، كان ظهور ولاية المتغلب ورسوخها عبر القرون تعبيراً عن استثنائية الخلافة الراشدة التي لم تتمكن من الصمود أكثر من ثلاثة عقود، وإذا كان الفقهاء مجمعين على أن الأخيرة هي النموذج المثالي والوحيد للخلافة «أو الدولة الدينية»، وأن الدولة الأموية وما أعقبها من دول هي في حقيقتها دولة ملك «ولاية متغلب» وليست دولة خلافة، فإن هذا يعني أننا بعد الفتنة بتنا إزاء دولة دنيوية توظف الدين وتستظل به. بعبارة أخرى، ولاية المتغلب دولة عربية إسلامية، متمسكة بالخصائص القبلية للمجتمع العربي، وتنتمي إلى الإسلام، ومن ثم لم تكن دولة دينية.
ولعل من الطبيعي أنه إذا كان الدين في مرحلة الخلافة الراشدة متصلاً بالدولة بأقرب ما يكون الاتصال، ومتداخلاً معها أحياناً، فإن الفصل بينهما سيحل محل هذا الاتصال في الدولة الدنيوية التي جاءت بعد هذه الخلافة. ويبدأ الفصل -كما ذكرت- من طبيعة الدولة ذاتها، وهي طبيعة الغلبة التي فرضت مشروعية الشوكة والغلبة، وأولويتها على غيرها مثل آلية للوصول إلى الحكم. ومن الواضح أن آلية القوة والغلب في لعبة السلطة آلية اجتماعية دنيوية محض، في مضمونها وطريقة عملها، وفي مراميها النهائية. هي ليست آلية دينية أو مستمدة من نص ديني، صحيح أنها ربما تستخدم لهدف ديني أو بغطاء ديني، لكنها بذاتها ليست عاملاً دينياً. وهذا تحديداً مناط التجاور، ثم التمييز والفصل بين الديني والسياسي في التجربة الإسلامية حتى في مرحلتها الكلاسيكية. فأي منهما «الغلبة والدين» لم يفضِ في الحقيقة إلى إلغاء الآخر أو نفيه تماماً من المعادلة. وحتى قول الفقهاء بضرورة القبول بواقع ولاية المتغلب تجنباً للفتنة، وهو قول تحول إلى قاعدة معتمدة وراسخة، هو في الأخير قول يصبو إلى هدف اجتماعي سياسي، أي هدف دنيوي، وليس هدفاً دينياً. تجنب الفتنة واجب ديني، لكن ليس لأن التجنب بحد ذاته هدف ديني، وإنما لأن من أولويات الإسلام نشر السلم وتحقيق الأمن في المجتمع.
ولا تتضح الصفة الدنيوية للقوة والغلب فقط من طبيعة الآلية ذاتها، وإنما من حقيقة ألا القرآن ولا السنّة النبوية تناولا موضوع الدولة بمدلولاتها السياسية والقانونية، أو تداولا السلطة، وكيفية الوصول إليها، ومصدر هذه السلطة. وهناك إجماع بين الفقهاء على أن الشارع اعتبر هذه الأمور السياسية أموراً دنيوية، وترك أمر التقرير في شأنها للناس، كما قال الرسول يوماً: «أنتم أدرى بأمور دنياكم». وانطلاقاً من ذلك، فإن التجويز الشرعي لآلية الغلب هو تجويز اعتمد على التأويل بناء على مبدأ «درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة»، وليس على نص هو ليس موجوداً أصلاً. ومن ثم فهو تجويز لآلية دنيوية على أساس من مصلحة دنيوية أيضاً.
في هذا الإطار السياسي الذي يستند أساساً إلى فصل الديني عن السياسي، أخذت معالم أخرى للفصل تبرز في شكل طبيعي. فالجماعات الدينية، وعمليات تشكل المذاهب، وتدوين الحديث، وتدوين وتقعيد الفقه وأصوله، وتفسير القرآن، كانت تتم خارج الإطار الرسمي للدولة، ومن دون علاقة بها. هناك مؤشرات إلى أنه تم توظيف رواية الحديث لمصلحة هذه الدولة، أو ضداً لمصلحة تلك، وهي مؤشرات تحفل بها المصادر، لكن هذه تتم عادة من منطلقات ولأهداف سياسية، كل ذلك يوحي بأنه في أواخر الدولة الأموية وبداية الدولة العباسية أصبح المجتمع السياسي بقياداته وآلياته ومؤسساته يتميز وينفصل عن المجتمع الديني بعلومه ومحدثيه وفقهائه ومريديه، وذلك في الإطار الجامع للدولة ذاتها. وعانت الدولة في هذا الإطار من الجماعات الدينية المعارضة، مثل الخوارج، وفي الوقت نفسه استفادت من عمل المحدثين والفقهاء في بلورة البنية القانونية للدولة المتمثلة بالشريعة تبعاً لهذا المذهب أو ذاك. والدولة هنا دائماً انتقائية وفقاً لرؤية «أمير المؤمنين» والمحيطين به، لمصلحة الدولة واستقرارها.
لا يمكن القول إن فصل الديني عن السياسي في هذه الحال كان يعبر عن علمانية الدولة الإسلامية في مرحلتها الكلاسيكية. هناك فرق كبير بين الفصل الدستوري أو الفصل المنصوص عليه بمادة دستورية مدونة، كما حصل في الدول الغربية الحديثة عن نوع آخر من الفصل. هذا النوع الآخر هو الفصل الذي يتم بشكل عفوي وطبيعي، يفرضه الواقع الاجتماعي للدولة، وتفرضه مصلحة الدولة في حدود هذا الواقع. وهو فصل غير منصوص عليه مباشرة بمادة دستورية مكتوبة، لأنه لم يكن هناك دستور أصلاً. الفرق بين هذين النوعين يعكس مسار التطور السياسي والدستوري للدولة، ومن ثم فالفصل هنا فصل طبيعي أملته الطبيعة الإنسانية للمجتمع، ولم يكن فصلاً سياسياً بالاستناد إلى نص دستوري أملاه التطور السياسي والدستوري للمجتمع.
من ناحية أخرى، هناك صفتان أساسيتان للعلمانية، الأولــى أنهـــا تعبير عــن الاستقــلال المعــــرفي «الإبستمولوجي» للعقل الإنساني، كما يقول عادل ظاهر، أي قدرته على التحصيل والتحليل المعرفي، وبالتالي على إدارة شؤونه الدنيوية باستقلال عن سلطة الموروث في شكل عام، وسلطة المؤسسة أو النصوص الدينية في شكل خاص. والصفة الثانية أن العلمانية بناء على ذلك تقتضي حيادية الدولة دينياً، وأيديولوجياً عموماً. أي أن تكون الدولة من دون هوية دينية أو مذهبية، ما يسمح بأن تكون علاقتها بمن ينتمي إليها علاقة دولة مدنية مستقلة بمواطنيها، وأن تكون على مسافة واحدة من هؤلاء المواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو المذهبية أو العرقية.. إلى آخره. ولم تكن الدولة الإسلامية تتوافر فيها أي من هاتين الصفتين، لا في مرحلتها الكلاسيكية ولا في ما بعد ذلك. فهي لم تكن مستقلة تماماً عن النص الديني في دورها السياسي، ولا في مقاربتها للشؤون الاجتماعية والقضائية، ولم تكن حيادية من حيث هويتها الدينية والمذهبية.
ما الذي يمكن أن نستنتجه من ذلك؟ إن فصل الديني عن السياسي من حيث المبدأ أمر طبيعي. حصل في القديم لأسباب طبيعية وأدوات معينة متوافقة معها. ويحصل في العصر الحديث بدواعٍ سياسية وآليات دستورية مختلفة، لكن ليس كل فصل للديني عن السياسي تعبيراً عن علمانية ناجزة، وإنما هو -تبعاً لمنطلقاته وحدوده وأهدافه- تعبير عن الحال الاجتماعية والسياسية للحظة التي حدث فها. ربما يقال إن الفصل يشبه العلمانية، وربما يؤسس لها ثم يفضي إليها. وهذا صحيح.
السؤال؛ إذا كانت عملية الفصل في أصلها طبيعية ولا يمكن تفاديها، فهل العلمانية التي ربما تفضي إليها هي أيضاً عملية طبيعية لا يمكن في نهاية المطاف تفاديها؟
* نقلاً عن صحيفة «الحياة»